بلاء أم عقوبة.. امتحان أم عذاب.. هذا هو مدار الجدل الدائر بين الناس، حتى بتنا نشهد بعضهم يؤكد أن هذا الأمر عقاب إلهي، أو اختبار لرفعة الناس وعلو منزلتهم!
لست بصدد الحديث عن كارثة طبيعية أصابت منطقة معينة، بقدر ما أريد أن أسلط الضوء على المواقف المطلوبة إزاء هذه الظواهر وآلية التعامل معها.
فالكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير وغيرها، لها تفسيرها العلمي، وحدوث بعضها طبيعي، إما لتحرك الصفائح التكتونية الأرضية، أو لطبيعة المناخ في هذه المنطقة أو تلك، أو غير ذلك من الأمور المعروفة لكل من يدرس هذه الظواهر ويحللها.
لكن في نفس الوقت، لا تعدوا كل الظواهر أن ترتبط بأمر فيه بلاء للناس، أو عقوبة، أو غيرها، لكنه أمر غيبي لا يتسنى لنا الكشف عنه أو سبر أغواره وإظهاره للناس والحكم عليه.
الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير وغيرها، لها تفسيرها العلمي، وحدوث بعضها طبيعي، لكن في نفس الوقت، لا تعدوا كل الظواهر أن ترتبط بأمر فيه بلاء للناس، أو عقوبة، أو غير ذلك
حينما نتدبر القرآن الكريم، نجد نماذج كثيرة من عقاب الله عز وجل للعصاة والمكذبين، وقد بين الله تعالى أن #العقاب ينتظر من يكذبه ولا يؤمن به أو يحارب الله ورسوله وأولياءه، والنصوص كثيرة، يكفي أن أورد بعضاً منها:
⦁ قال تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} {آل عمران:12}
⦁ {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا} {الإسراء:85}
⦁ {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} {سبأ:45}
⦁ وفي الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" (1)
وحينما نتدبر الآيات التي تتناول ما حل بالأقوام السابقة من عذاب؛ لتكذيبهم أنبياء الله، ورفضهم الإيمان بالرسالة التي بُعثوا بها، نلحظ أن الله قد صرح بأنها عقاب لهم، بغض النظر عن الكيفية التي تم إهلاكهم فيها، إلا أنها تختلف عما نحن فيه، فإن الله قد نص عليها على أنها نوع من العقوبة التي يتعرض لها الكفرة والمكذبون، خلافاً لما نشهده اليوم، حيث لا وحي يتنزل، ولا نبي مرسل.
ولهذا، وبناء على ما سبق، لا نستطيع أن نحكم على هذه الظاهرة، أو تلك المصيبة وغيرها بأنها عذاب أو ابتلاء لرفعة المنزلة، فهذه الأمور لا تعرف إلا بالوحي – كما أسلفت- لكن بدل الخوض في هذه الظواهر وإدراجها تحت هذا الصنف أو ذاك، وإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه، فإننا علينا أن نفكر بالرسائل المستفادة من هذه الظواهر وغيرها، وما يجب علينا تجاهها، والتي تتمثل بالتالي:
لا نستطيع أن نحكم على هذه الظاهرة، أو تلك المصيبة وغيرها بأنها عذاب أو ابتلاء لرفعة المنزلة، فهذه الأمور لا تعرف إلا بالوحي
1- اتهام النفس بالتقصير، والعمل على إصلاحها، وتفقد معالم الخلل في السلوك والتصرفات، فالعبد يخشى حين يتعرض للابتلاء – سواء كان كارثة طبيعية، أو مصيبة أو غير ذلك- أن يكون عقوبة له ، وقد ورد عن بعض السلف حينما أُصيب بمرض شديد في آخر عمره، قال مما أصبتُ بهذا؟ فجعل يتذكر هل له ذنب يعاقب عليه، فتذكر فقال: ربما كانت من نظرة نظرتُها وأنا شاب!
وفي هذا الصدد يقول سيد قطب – رحمه الله-: " والشدة ابتلاء من الله للعبد؛ فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه؛ وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه" (2)
2- الدعوة إلى التغيير وإصلاح أحوال المجتمع، والدعوة إلى التقوى، ومراجعة الجميع لأنفسهم، وتلمّس جوانب التقصير. ومما يدل على هذا موقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما ضرب المدينة المنورة زلزال قوي، فقال رضي الله عنه: "يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم" (3).
وموقف الفاروق رضي الله عنه، يبين أن الأخذ على يد المجتمع، ودعوتهم لمراجعة أنفسهم، سبب لحماية الجميع من عذاب الله وسخطه ، فالأصل أن لا يقتصر الإصلاح على الفرد، وإنما يتعدى للمجتمع، وما الابتلاءات والكوارث التي تقع إلا رسائل تصب في ذات الاتجاه، وتحثنا على مراجعة أنفسنا ومحاسبتها.
3- الثبات على الإيمان وعدم التذمر، بغض النظر عن حجم البلاء أو الكارثة، فلسنا مطالبين بأن نقول: هذا عذاب من الله، ثم نقنط ونسخط! يقول سيد قطب: "فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء) (4).
4- مساعدة من يتعرضون لهذه الكوارث، ومد يد العون لهم، إما بإغاثتهم، أو التخفيف عنهم، ولا تجوز الشماتة بهم لكفرهم أو لمعصيتهم، وإنما علينا أن نقوم بواجبنا تجاههم كبشر كرمهم الله؛ لأنهم من ذرية آدم. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]. لذا فنحن لسنا مخولين بمحاسبة الناس، وإنما باتباع ما أمرنا الله ورسوله في هذا الصدد. يقول تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} [المائدة:32]. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة أغلق الله باب السماء دون خلته وحاجته وفقره ومسكنته"(5).
و ذكر السرخسي -في شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل مكة خمسمائة دينار حين أصابهم القحط، وأمر بدفع ذلك على فقراء أهل مكة، فقبل ذلك أبو سفيان، وأبى صفوان وقال: مايريد محمد بهذا إلا أن يخدع شبابنا"(6). ولا يخفى أن أهل مكة كانوا مشركين محاربين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ساعدهم في محنتهم.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قد مر عند مقدمة بالجابية من أرض دمشق بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت(7).
لا تجوز الشماتة بمن تصيبهم الكوارث لكفرهم أو لمعصيتهم، وإنما علينا أن نقوم بواجبنا تجاههم -كبشر كرمهم الله- بالإغاثة والمعونة؛ لأنهم من ذرية آدم. ونحن لسنا مخولين بمحاسبة الناس، وإنما باتباع ما أمرنا الله ورسوله في هذا الصدد
تنويهات..
لابد أن أنوه إلى عدد من الأمور المتعلقة بهذا الأمر، والتي قد يخطئ بعض الناس في فهمها أو الحكم عليها، وهي:
⦁ الابتلاء لا يشترط أن يكون مصيبة أو كارثة، بل له صور عديدة، ومنها بسط الله الرزق لعباده ، وهو ابتلاء ليس باليسير. يقول الرازي رحمه الله: " كيف سمي بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ الجواب لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله، أيشكر أم يكفر! وإذا قدر عليه، فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع! فالحكمة فيهما واحدة" (8).
⦁ أنواع الابتلاء المختلفة التي تصيب المؤمن لها معانٍ عديدة، كما أشار لذلك أهل العلم ومنها:
أن تكون عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، أو ابتلاء واختباراً، أو تمحيصاً للذنوب (9) يقول الألوسي -رحمه الله-: " واعلم أن البلاء على ثلاثة أضرب: منها تعجيل عقوبة للعبد، ومنها امتحان؛ ليبرز ما في ضميره فيظهر لخلقه درجته أين هو من ربه، ومنها كرامة؛ ليزداد عنده قربة وكرامة"(10).
⦁ عندما يكون البلاء عاماً فهذا لا يعني أنه عقوبة على جميع من استهدفهم، بل قد يكون عقوبة لبعضهم، وسبباً للمثوبة لدى البعض الآخر. يقول القرطبي رحمه الله: "إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة"(11).
عندما يكون البلاء عاماً فهذا لا يعني أنه عقوبة على جميع من استهدفهم، بل قد يكون عقوبة لبعضهم، وسبباً للمثوبة لدى البعض الآخر
ختاماً.. لا يحق لنا أن نصدر الأحكام جزافاً على الناس، فهذه الظاهرة ابتلاء، وتلك عقوبة، وأخرى نقمة لفعلهم كذا وكذا، فهذا مما لسنا مؤهلين له، ولا أحد منا له أن يزكي نفسه، وأن يعتبر نفسه في مأمن من عقاب الله على ذنوبه، وأن يفسر كل ما يصيبه بأنه لرفعة درجته وعلو منزلته، بل علينا دائماً وأبداً أن نتلمس جوانب التقصير في حق الله عز وجل، وحق العباد.
وفي الوقت نفسه، فإن الإنسان قد يكون دائم الاستغفار والتوبة، وحريصاً أشد الحرص على محاسبة نفسه، والتزام طريق الحق والتمسك به، ومع ذلك يتعرض للمحن والابتلاءات المختلفة، وهنا عليه أن يسلم أمره لله، ويصبر! فالأنبياء عليهم السلام قد تعرضوا للمحن والابتلاءات، والصالحون كذلك. يقول ابن القيم رحمه الله: "وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم الى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنه عظيمة، تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان!"(12).
_____________
الهوامش:
(1) رواه البخاري.
(2) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3،ص32.
(3) رواه النسائي في السنن الكبرى، وابن أبي الشيبة في مصنفه، وابن عبد البر في الاستذكار، وهو صحيح.
(4) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج5، ص187.
(5) رواه الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين للحاكم، قال الذهبي: صحيح.
(6) السرخسي، السير الكبير، ج1، ص33.
(7) البلاذري، فتوح البلدان، ص177
(8) الرازي، مفاتيح الغيب، ج31، ص155.
(9) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص210.
(10) الألوسي، روح البيان، ج4، ص144.
(11) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص237.
(12) ابن القيم، مفتاح دار السعادة، ج1، ص312.