الإنسان ومكانته في مقاصد الشريعة.. أولوية مؤجلة في قضايانا

الرئيسية » بصائر الفكر » الإنسان ومكانته في مقاصد الشريعة.. أولوية مؤجلة في قضايانا
phases-of-human-life-in-the-light-of-islam

خلق اللهُ تعالى الإنسانَ من أجل القيام بمنظومة هي الأهم والأقدس، بل إنها هي أساس خلق الله تعالى للدنيا والكون، وهي منظومة إقامة عقيدة التوحيد، وعبادة الله تعالى في الأرض، وتقديسه، وإعمار الأرض.

ومن أجل إعانة #الإنسان على أداء هذه التكاليف العظيمة؛ ميَّز الله تعالى الإنسان بالعديد من الأمور والمزايا التي لم يحظَ بها مخلوق آخر، وأهمها العقل، وهو مناط التكليف؛ فلا تكاليف على غير العاقل، فيما ينتقص غياب الأهلية من بعض التكاليف التي فرضها الله تعالى على الإنسان.

فمن دون العقل؛ لا يكون الإنسان قادرًا على أداء التكاليف، وهو من مظاهر عدل ورحمة الله تعالى كذلك، ولأجل أن يكون الحساب الإلهي عادلاً في الدنيا والآخرة كان نظير هذا التكليف، وقد سخَّر اللهُ تعالى للإنسان كل ما في هذا الكون، من أجل أن يعينه ذلك على الحياة والاستمرار فيها إلى أن يأذن الله تعالى بإنهاء الحياة الدنيا.

والأمر قريب في هذا -ولله المثل الأعلى- من المبدأ الإداري المعروف الذي يقول: "إنه لا تكليف من دون مسؤولية، ولا مسؤولية من دون صلاحيات".

لذلك أعطى الله تعالى الإنسان المُكَن اللازمة من أجل الحفاظ على استمرارية حياته، بقدَر الله تعالى الذي قدَّره له في هذه الحياة الدنيا، ووفق قوانين العمران المعروفة.

ولهذه الأهمية؛ فإن الله عز وجل، وضع مقاصد الشريعة أو المقاصد الشرعية، والتي تعني في علم أصول الفقه، ما قصده الشارع الأعظم (أو المُشرِّع الأعظم، وهو الله سبحانه وتعالى) من الضروريات والحاجيات والتحسينات.

وهذه #المقاصد تنظم حياة الإنسان وعلاقاته ومصالحه في إطار ثلاث دوائر، الأولى: هي دائرة الله عز وجل، والثانية: هي دائرة الإنسان ذاته، والثالثة: هي دائرة المخلوقات الأخرى، سواء البشر الآخرين، أو حتى سلوكه إزاء الحيوانات والجمادات، بل وحتى الجان؛ حيث نظمت الشريعة الإسلامية هذا الأمر كذلك.

وهذه المقاصد خمس، وهي بهذا الترتيب -الذي يرى جمهور العلماء أنه مقصودٌ في نقطة الأولويات- : حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.

هذه المقاصد الخمس صُلْبَها الإنسان والله سبحانه وتعالى ذاته الذي هو ربُّنا وخالقنا لأجل أن نعبده وضع حقوقه المباشرة في بندٍ واحد، وهو حفظ الدين. والأربع الباقية تخص شؤون الإنسان.

وحتى بند حفظ الدين صلبه الإنسان. فالإنسان هو الوعاء الذي سوف نحفظ فيه دين الله عز وجل، وهو الذي سوف يقيم هذا الدين من خلال العقيدة والشعائر والمعاملات، وهي الدوائر الثلاث الأساسية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية.

الإنسان هو الوعاء الذي سوف نحفظ فيه دين الله عز وجل، وهو الذي سوف يقيم هذا الدين من خلال العقيدة والشعائر والمعاملات

بل إنه وفي نقطة حفظ الدين؛ قدَّم الله تعالى -بالنص القرآني وصحيح الحديث النبوي- حفظ النفس وحرمتها، على حفظ الدين ظاهريًّا؛ حيث أباح الإسلام – الذي هو دين الله تعالى وأحكامه هي شريعته عز وجل – للإنسان المسلم أن يظهِر الكفر، لو أن ذلك سوف يقيه الأذى أو القتل.

ونموذج الصحابي الجليل، عمَّار بن ياسر (رضي الله عنهما) معروف، عندما قال كلمة الكفر تحت وطأة التعذيب، وطمأنه الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" على إسلامه، وفي القرآن الكريم: {إِلاَّمَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سُورة "النَّحل" – من الآية 106].

وفي العبادات، التي هي المظهر الرئيس لعبودية الإنسان لله عز وجل وتوحيده له؛ أسقط الله تعالى جزءًا من الصلاة في السفر وفي حالات الخوف، وفي الحرب، وفي المرض، وكذلك في الصوم، حفظًا لحياة الإنسان، وحمايةً لصحة بدنه ونفسه وعقله.

ومنطق الدين القويم في ذلك الأمر بسيط جدًّا. فلو قدمنا حفظ الدين بشكل فيه جمود، على حياة الإنسان، ومات هذا الإنسان؛ سوف يفنى الوعاء الذي يحفظ هذا الدين.

لو قدمنا حفظ الدين بشكل فيه جمود، على حياة الإنسان، ومات هذا الإنسان؛ سوف يفنى الوعاء الذي يحفظ هذا الدين

وحتى غير المسلم؛ فإن قتله بغير حق، فيه إفساد للدين؛ لأن أي إنسان، هو ساحة محتملة للدعوة، وأي شخص غير مسلم؛ هو مسلم محتمل؛ فأولى من قتله لمجرد أنه غير مسلم -كما تفعل بعض الجماعات المنحرفة فكريًّا وفقهيًّا الآن- أن نسعى إلى دعوته إلى الإسلام، فلربما كسب الإسلامُ فردًا جديدًا يعزز أمة محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".

هذا في مقصد حفظ الدين، وفي غير ذلك فإن مقاصد الشريعة الإسلامية، وكثير من أحكامها؛ كانت لأجل الإنسان: حفظ حياة الإنسان، وعِرْض الإنسان، ومال الإنسان، ونسل الإنسان.

فقتل القاتل؛ يكون أخذًا بدم الميت، وحفظًا لحياة آخرين قد يقتلهم هذا القاتل، وقطع يد السارق؛ لحفظ مال الإنسان وحقوقه، وهكذا.

وبالتالي؛ فإن الإنسان شيء غالٍ وثمين جدًّا عند الله تعالى، وحقن دمائه وحفظ حياته، هو المقصود الثاني من مقاصد الشريعة مباشرةً، هذا الكلام لايوجد فيه أي مجال للتأويل، أو وضع استثناءات له من أي مُدَّعٍ.

وفي هذا الإطار، يمكن ببساطة الجزم بأن هناك بالفعل انحرافات لدى جماعة المسلمين، وبالذات الطليعة منها في الحركة الإسلامية والحكومات، وهي كذلك المفترض أنها طليعة بشكل أو بآخر، لو أخذت البلدان الإسلامية بالشورى التي وضعها الإسلام لأخذ القرارات الخاصة بجماعة المسلمين، في خاصة وعموم أمرهم، ومن أهم مجالات ذلك، اختيار الحاكم، كما فعل الخلفاء الراشدين.

فالمتأمل في القضايا والأزمات، وطبعًا في الحروب الحالية في الأمة؛ سوف يجد أن الإنسان هو آخر ما يفكر فيه الجميع، وهو خطأ أولويات بالتأكيد، فإذا ما كانت الشريعة التي تجسد حكمة الخالق عز وجل، وإرادته فينا، وفي الكون كله؛ قد فضَّلت الإنسان، وأعطته الأولوية؛ فأولى بحكوماتنا وبقادة الحركة الإسلامية الذين يقولون إنهم يعملون على إعادة تمكين الدين بين ظهراني الأمة؛ أن يتبعوا أحسن ما أنزل الله عز وجل.

المتأمل في القضايا والأزمات، وطبعًا في الحروب الحالية في الأمة؛ سوف يجد أن الإنسان هو آخر ما يفكر فيه الجميع، وهو خطأ أولويات بالتأكيد

ولكننا نرى أن أول ما يتم تدميره في الحروب والأزمات، هو بنيان الله تعالى في أرضه، وهو الإنسان!

فعلى مستوى القضية الفلسطينية؛ نرى في سوريا خراب العمران قد لحق بمخيمات اللجوء الفلسطينية التي كانت تؤوي ما يقرب من نصف مليون شخص، جُلُّهم من المسلمين – مع أن هذا الأمر لا فارق فيه بين مسلم وغير مسلم – تم تشريدهم وقتل الآلاف منهم، بما في ذلك هدم المساجد التي كانوا يقيمون فيها صلاة الجماعة، ولم تحرك القيادات الفلسطينية ساكنًا، سواء في السلطة ومنظمة التحرير، أو في الفصائل -إلا من رحم ربي- لحساب سياسات ومصالح ضيقة، بينما الجميع يقول إن كل ما يقوم به ويفعله من "جهاد" و"نضالات" هو لصالح الإنسان الفلسطيني.

وهذا نفاق واضح؛ حيث يُقتل الإنسان الفلسطيني برصاص فلسطيني في مخيمات اللجوء الفلسطيني، لصالح الفصائلية وليس العكس، ومخيم عين الحلوة وأحداثه الحالية أبلغ شاهد على ذلك.

وأيضا.. أليس الأسيرات الفلسطينيات بحاجة إلى هبة مثل هبة الأقصى الأخيرة؟!.. على أهمية المكان والحرم؛ فإن أعراضنا التي تُنتهَك في سجون الاحتلال، وفي معتقلات الأنظمة الظالمة؛ في ذات الأهمية، بل أكبر.

فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يقول: "لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق"، ورُوي بلفظ: "لهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون من قتل مسلم" [ذكره البيهقي في "شعب الإيمان"، ومعناه عند الطبراني].

إننا بحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات؛ بحيث يصبح الإنسان هو الهدف والمستهدف الأول، اتساقًا مع الشريعة التي نقول إننا مؤمنون بها، ونسعى إلى تمكينها

في الحرب في اليمن؛ كل القيادات اليمنية في كلا الاتجاهَيْن المتصارعين يهمهم مصالح وأمن الشعب اليمني، بينما الإنسان اليمني هو الضحية، وحتى لو صدق البعض في شعاراته القومية التي يرفعها؛ يبقى أن ذلك خطأ كبيراً؛ حيث الإنسان الذي يموت بالكوليرا أو الجوع أو المياه الملوثة أولى من أية شعارات عن "الوطن"!

فما الوطن غير الإنسان والأرض؟!.. بينما في سوريا واليمن وغيرها من بلدان عالمنا العربي والإسلامي؛ لا شيء يحدث سوى قتل وتشريد الإنسان، وحرق وتفتيت الأرض، وهدم العمران الذي يضمن للإنسان كرامته التي جعلها الله تعالى مع العقل والحرية صنوَ كلمة "الإنسانية"، ومن مكوناتها الأصيلة.

إننا بحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات؛ بحيث يصبح الإنسان هو الهدف والمستهدف الأول، اتساقًا مع الشريعة التي نقول إننا مؤمنون بها، ونسعى إلى تمكينها!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …