لا يخفى على أحد ارتباط العملية التعليمية، ومستواها قوة أو ضعفاً على الحضور الحضاري أو انعدامه، في الوقت الذي تتجاذب الشخصية العربية المسلمة، منذ ما يقرب من قرنين، متزامنة في ذلك مع الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين، يتجاذبها اتجاهان متضادان، وطريقتان مختلفتان في الرؤية المستقبلية، وطريقة التفكير، والسلوك الإنساني.
الاتجاه الأول- ذلك الذي أكد عليه الإسلام في كتاب الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي حث على حسن المعاملة، وأن الإيمان: "هو ما وقر في القلب، وصدقه العمل"، (أخرجه ابن أبي شيبة من قول الحسن). والمعاملة: هي التعامل والسلوك تجاه الآخر، ذلك الفهم المستمد من الدين على مدى قرون متوالية، أثر على شكل الحضارة والهوية، بل وجهها وجهتها المعروفة في التاريخ (بالحضارة الإسلامية)، خاصة في فترات تألقها وازدهارها.
وخلف ذلك الاتجاه إنساناً ينظر بعين على الماضي فقط، يستمد منه كل الحلول للمشكلات القائمة، ويرى فيه وحده المنقذ، لما آلت إليه أحوال الأمة.
الاتجاه الثاني- هؤلاء الذين تلقوا #التعليم في مدارس ما بعد الاستعمار الأوروبي لبلاد العرب، الاستعمار الذي حرص على تغيير الهوية، بغرس تعاليمه في مناهج تدرس حتى اليوم، تشكل عقليات النشء، وتوجههم حسب بوصلتها التي تشير في اتجاه الغرب لا غيره، هؤلاء يرون أن تنتفض الأمة من ثوب الماضي الذي تراه قد اهترأ، فلا أمل في إصلاحه، وترى الحل في ارتداء ثوب غربي خالص؛ كي تصل الأمة إلى ما وصلوا إليه هناك.
وإذا أردنا أن نلقي نظرة مكتملة على مكنون تلك الازدواجية اليوم، فلنلقِ نظرة –أولاً- على الأسباب التي أدت إلى تلك الازدواجية، وأصلها في الأمة، والموروث الحضاري لها، والتأثير الخارجي عليها.
ظلت #الأمة الإسلامية قاطبة -حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- محتفظة بعمقها الحضاري عقلاً ووجداناً، ذلك العمق المنبثق من الإسلام، متمثلاً في نصوص القرآن والحديث النبوي الشريف في تعليم أبنائها، اتخذت تلك الطريقة في التعليم صورة عملية؛ ليصير العلم سلوكاً، وليس معلومات مجردة يحويها عقل الأجيال المتتابعة، قرون طويلة تحدث عملية التعليم بنهج واحد، وهو تعليم الدين، وتحويل النصوص إلى مشاهد عملية يومية، يسير بها الناس في واقعهم العملي والتعاملي، واتخذ ذلك الموروث الحضاري شكلاً واحداً لم يتطور على مدى قرون، منذ بداية الإسلام وانتشاره بتعلم القرآن، والسنة المطهرة، والسيرة النبوية، وتاريخ الصحابة، والفتوحات الإسلامية، وبالطبع القراءة والكتابة، ومن المعروف أن للعلم في الإسلام مكانة عبّرت عنها الآية الأولى في كتاب الله، وهي: {اقرأ}، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على أن يعلم بعضهم بعضاً، وجعل عليه الصلاة والسلام من ضمن فداء الأسير: أن يعلم عشرة من المسلمين.
وعلى غرار المسجد النبوي في المدينة، والذي لم يكن مجرد مكان لأداء الصلوات والعبادة، فقد اتخذت المساجد في بقاع بلاد الإسلام، نفس الشكل المتكامل في العبادة والتعليم والاجتماع؛ لاتخاذ القرارات المصيرية للأمة، هذا غير أن بعضها تحول لجامعات، مثل: "الأزهر في مصر" و "الزيتونة بتونس" و "القرويين بالمغرب"، فضلا عن "الحرمين في مكة والمدينة".
ولانتشار الإسلام في مناطق واسعة، استجدت على الأمة علوم ومعارف أخرى، غير علوم الدين، مثل: العلوم الطبيعية، والكيمياء، والرياضيات، والفلسفة، وغيرها من العلوم، فظهرت الحاجة لمكان آخر غير المسجد؛ لتلقي تلك العلوم، فظهرت المدارس في القرون الأربعة الأخيرة، غير أن معظمها احتفظ بالطابع الديني في التعليم في تلك المدارس والمعاهد، ولأنه لا تناقض في الإسلام بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فقد حدث نوع من التكامل المحمود؛ لتصير منهاجاً متكاملاً -ولو بشكل جزئي ومحدود- يغطي كافة احتياجات الإنسان، فقد واءمت تلك المدارس بين التعليم الديني إلى جانب علوم الطبيعة والكيمياء والفنون، ولذلك نجد الآثار الحية للحضارة الإسلامية تجمع بين أصالة الفكر وقوة العلم في فنون المساجد القديمة والمعمار الإسلامي، ونشأت الأوقاف التي تيسر لمن لا قدرة له على تلقي العلوم، وتوفر لهم الكساء والمسكن والنفقة اللازمة؛ لاستكماله طريق العلم.
واءمت المدارس الإسلامية قديماً بين التعليم الديني إلى جانب علوم الطبيعة والكيمياء والفنون، ولذلك نجد الآثار الحية للحضارة الإسلامية تجمع بين أصالة الفكر وقوة العلم
في بداية القرن الثامن عشر، كان العالم الإسلامي في حالة من الانعزالية والتخلف، وذلك لاستمرار المنهجية دون تجديد ودون مراعاة لمستجدات كل عصر، فبينما نفض الغرب عنه كل علامات التخلف، وثار العلم على الكنيسة التي كانت تحرم العلوم الدنيوية، وخطت أوروبا خطوات واسعة نحو البناء الحضاري الحديث، ظل العالم الإسلامي في تلك الحالة من الانغلاق، دون أن يدري ما يحدث حوله بالعالم، فكان من السهل في ذلك الحين أن يقع العالم الإسلامي قطعة بعد الأخرى، ويذوب في ثقافة الآخر المحتل، الذي حرص على فرض هويته على تلك الهوية المتهالكة، أو كما أسموها: "الرجل المريض"! في نهاية حكم الخلافة العثمانية.
بدأ الاحتكاك الحضاري في أواخر القرن الثامن عشر مع أول فوج للاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، في الوقت الذي كان يدرس الدين فيما يعرف: "بالكتاتيب" التي لم ينلها أي نوع من أنواع التطوير الذي يواكب العصر، بينما كانت أوروبا قد خطت خطوات واسعة نحو التقدم والحداثة، حتى بعد ذلك الاحتكاك لم تحدث محاولة جدية؛ لتطوير العملية التعليمية؛ لتواكب الحضارة الحديثة انطلاقاً من روح الدين، وإنما حدثت المفارقة الكبيرة حين ظل التعليم الديني كما هو في مكانه، دون أدنى تطوير، ونشأت على الصعيد الآخر المدارس التي تدرس العلوم الحديثة، وقد حرص الاستعمار على انتشارها في أنحاء بلاد المسلمين، حاملة معها الهوية الجديدة بكل إيجابياتها وسوءاتها!
وظل القديم على حاله، ونشأ الجديد بكل محتواه، دون أدنى فرصة للاختيار. وهنا نشأت الازدواجية التعليمة؛ لتستمر حتى اليوم، محركة العقلية العربية في خطين متجاذبين متضادين، لم يصلا بالأمة إلى شيء؛ لتظل في حالة من الركود الحضاري، فضلا عن الجمود والتخلف، ولأن المعاهد الدينية ظلت محتفظة بمجانيتها، فقد احتفظت بروادها من الفقراء، وعوام الناس، واحتفظت المدارس الجديدة بمراحلها الأولى وجامعاتها بالطبقة المتوسطة، وطبقة الأغنياء في المجتمعات العربية والإسلامية.
والذاتية الحضارية في أي حقبة زمنية، تتوقف على ما يبذل من جهود للحفاظ على تلك الهوية، هذه الجهود تتمثل في العطاء الحضاري البشري بشكل متجدد ومستمر، وذلك كله متوقف على عملية التربية وبناء الفرد وتوفير احتياجاته الإنسانية منذ الصغر؛ ليتكون الإنسان الحضاري المنتمي لأصله وهويته الثقافية، وكل هذا ينبني على مرجعية فكرية واضحة، ومحددة، تجيب للنشء عن أسئلة: "من نحن؟" و "ماذا نريد؟" "ولماذا؟" وهذا لن يتأتّى في ظل ازدواجية تعليمية وفكرية، تحياها الأمة حتى اليوم، بل تتضح معالمها وتبرز وتتأكد كل يوم عن سابقه.
الذاتية الحضارية لأمتنا لن تتحقق في ظل ازوداجية تعليمية وفكرية، تعجز عن الإجابة عن أسئلة النشء ولا ينبني عليها مرجعية فكرية واضحة
وللحركة الإسلامية إسهامات جلية في عدد من البلدان الإسلامية، وكان على رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها "حسن البنا" والذي وصف جماعته بأنها: "رابطة علمية ثقافية"، وأخذ من الإسلام: (أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)،[رواه البيهقي وغيره]. فجعل كل أندية الجماعة لتلقي العلم والثقافة، ومعاهد تربوية للجسم والعقل والروح، ووضعت الجماعة برامج تربوية هادفة، لكل حسب مكانه، سواء في الريف أو الحضر، ولمختلف الأعمار، ومختلف المهن.
وفي الجزائر، حيث هيمنت الثقافة الفرنسية بشكل كبير -بفعل الاستعمار الفرنسي- تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في الخامس من أيار/ مايو عام (1931)، على يد الشيخ: "عبد الحميد بن باديس"، (1889- 1940)، ولم تتوقف جهود هذه الجمعية على حدود الجزائر، وإنما امتدت إلى داخل فرنسا، حيث توجد جالية جزائرية كبيرة هناك. وكذلك كانت في ليبيا الحركة التي أسسها محمد بن على السنوسي (1276- 1202)، وفي لبنان كانت جمعية "المقاصد الخيرية" التي نشطت في إنشاء عدد من المدارس للمسلمين في لبنان، وهكذا في معظم بلاد المسلمين، غير أن هذه المحاولات اتخذت في مجملها شكلاً جزئياً، محدوداً جغرافياً، إضافة للحروب والصراعات التي واجهتها؛ نتيجة الصراعات السياسية، حتى تكاد تكون قد توقفت تماماً.
والمفارقة التي حدثت في تلك الفترة، ورسخت أسس الازدواجية التعليمية بعمق، هي جمود تلك المؤسسات الدينية عند حد ما، فرفضت تطوير ذاتها بحجة الحفاظ على الموروث الحضاري، وفي الحقيقة، إنه ليس رفضاً بقدر ما هو عجز، نابع من حالة التخلف والجمود والاستبداد السياسي السائد في المنطقة العربية خاصة، وبلاد المسلمين عامة، والهزائم المتلاحقة تلك التي شغلت الدولة الإسلامية عن الاستمرار في تطوير معارفها، أو حتى ملاحظة ما يحدث في العالم من تطور سريع على كل المستويات المعرفية.
لم يكن تطوير المؤسسات الدينية في وقتنا راجعاً إلى الحفاظ على الموروث، بقدر ما هو عجز نابع من حالة التخلف والجمود والاستبداد السياسي السائد في المنطقة
وعلى الجانب الآخر، كان التعليم المدني الغربي، يحاول نبذ كل ما يمت للدين بصلة، ويطرحه بعيداً عن أي تخطيط علمي مستقبلي، باعتبار أن الدين جملةً، هو سبب من أسباب الانغلاق على التقدم، والانطلاق الحضاري، فانسلخ كثير من أصحاب تلك النزعات انسلاخاً إلى حد الهجوم السافر والشديد على كل ما يمثل الدين، مهما بلغت درجة عراقته عمقاً في التاريخ، وسعة في العلوم، التي أقامت حضارةً، مازالت آثارها باقية إلى اليوم، شاهدة على عظمتها، لولا تهاون أبنائها، وتخليهم عن روح دينهم، وفقه مقاصده، تتبعا لكل خطوات الغرب الذي نبذ الكنيسة وما تمثله؛ لتنتهي حالة الصراع بين الدين والعلم؛ لينتصر العلم في نهاية المطاف، متجاوزا كل ما فرضته الكنيسة، عبر مئات السنين، وتنهزم الكنيسة في أكبر معاركها.
ينتهي الفصام الغريب في الغرب، ليبدأ في بلاد العرب، وهو الفصام الطبيعي هناك، والمفتعل هنا، ففي الوقت الذي انفصل فيه الغرب عن الدين؛ ليتخطى الحاجز الصلد، بينه وبين صنع حضارة علمية جبارة، كان جزء كبير من المسلمين يتخلون عن الدين، الذي يأمر بالبحث، والقراءة، والتعلم، والتبحر في كافة العلوم، بل وقدم نموذجا حضاريا متوازنا، يشهد العالم على قوته حتى اليوم.
وفي الوقت الذي توحدت فيه العقلية الأوروبية على منهج علمي واحد، لا صراع فيه بين هوية ورؤية مستقبلية، انفصمت الشخصية العربية بين نظرتين، وصراع بين وجهتين، إحداهما- تمثل الماضي وتتمسك فيه بقوة إلى حد أن تتوقف عنده، والأخرى لا ترى إلا الغرب بكل ما يمثل من ثقافة.
فهل يمكن أن تحل تلك المعضلة، وتحدث عملية التوازن المطلوب؛ للخروج بالفرد المسلم من تلك الإشكالية؟ هل يمكن أن تتكون جبهة علمية قوية، مكونة من المهتمين بالتعليم، ومستقبل تلك المنطقة، متحدة في كيان ثقافي كبير، يمثل كل بلاد المسلمين؛ لوضع حلول مبتكرة، ومناهج تنقلنا نقلة حضارية، تحمل هويتنا الإسلامية التي هي -إن عادت لأصولها وجذورها- كانت دفعة قوية؛ لخروجنا مما نحن فيه؟ تلك دعوة لهؤلاء، وآمل أن تجد صدى لديهم، فالأمر أصبح جد خطير، ولا أجد له خروجا إلا بإرادة صلبة لأصحاب الوعي والضمير.