ما زلنا نتفيأ ظلال فريضة #الحج، التي تعكس صورة في غاية الأهمية للوحدة والتماسك، لكن أفسدتها الخلافات السياسية، والعصبيات القبلية والحزبية.
ففي الحج تظهر صورة الأمة الواحدة، رغم اختلاف المسلمين من حيث اللون واللغة والعرق والتحديات والظروف، وفيه يتساوى الجميع فلا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أبيض ولا أسود، ولا فرق بين غني وفقير، الكل في صعيد واحد، يدعون رباً واحداً، ويقومون جميعاً بنفس المناسك.
وهذا المشهد المهيب، ما هو إلا تذكير للمسلمين بحقيقة هامة أن هذه الأمة واحدة، وأنه لا فرق بين أفرادها مهما فرقت بينهم مظاهر الدنيا.
يقول الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92].
ويقول تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات:13].
وحينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالناس يوم حجة الوداع، أكد على هذا الأمر في قوله: "أيها الناس: إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى".
إذن هي رسالة واضحة، تتمثل بأن وحدة المسلمين، وأخوتهم مقصد شرعي معتبر، لا يجوز العدول عنه أو القيام بأية ممارسة تؤدي إلى نقضه أو حتى الإخلال به.
وحدة المسلمين، وأخوتهم مقصد شرعي معتبر، لا يجوز العدول عنه أو القيام بأية ممارسة تؤدي إلى نقضه أو حتى الإخلال به
صور مشوهة..
لكن مع الأسف، بات البعض يستغل الحج لتحقيق بعض مصالحه، ويحاول أن يزرع الفئوية بين الناس، ويحارب فكرة الأمة الواحدة ويسعى لإلغائها من عقولهم، إما جهلاً أو تعمداً وهو ما يوحي بخطورة ما وصلت إليه أمتنا في الوقت الراهن.
فأحد "الدعاة" يستغل الفيس بوك ووجوده في مكة للدعاء بالرحمة والمغفرة واستجابة الدعاء لمتابعي "صفحته" فقط، وآخر يدعو الناس للتقرب إلى الله ليس بالالتفاف حول ولاة أمورهم، وإنما حول الملك فلان وولي عهده! ناهيك عن تجاهله لما يتعرض له المسلمون من مآس ومجازر في شتى بقاع الأرض. مما يعني أن هذه السلوكيات وغيرها باتت تناقض المقصود من الحج وغاياته السامية، وهي اتحاد المسلمين والشعور بهم أينما تواجدوا.
إن الجريمة هنا تتمثل بتجاوز اهتمامات المسلمين، وقضاياهم، وحصر التحديات بما يريده الغرب، أو المسؤولون في السلطة، فنسلط الضوء على "الإرهاب والتطرف" ونتغاضى عن أسبابه، أو عن "الإرهاب" الذي تمارسه السلطة بقمع الحريات وقتل المعارضة، والتآمر على مصالح شعوبها.
إن جعل الخطاب الديني رهناً للخطاب السياسي وتغيراته هو بحد ذاته جريمة لا يمكن المسامحة فيها، سواء أكان في الحج أو غيره
إن جعل الخطاب الديني رهناً للخطاب السياسي وتغيراته هو بحد ذاته جريمة لا يمكن المسامحة فيها، سواء أكان في الحج أو غيره، وإن فريضة الحج لتؤكد في كل عام أن ما يقوم به المسلمون مجتمعون من مناسك وشعائر، إنما هو نابع من دينهم وليس من دوائر الفتوى، أو ولاة أمورهم، ولهذا حريٌ بالجميع أن يأخذ هذا بالاعتبار، فقضية المسلمين في ميانمار، والعراق، وفلسطين، وسوريا وغيرها لا تنفصل بحال عما نعانيه كمسلمين كل في بلده ومكان سكنه، وإننا لابد أن نضع رفع الظلم عنهم وإنهاء مأساتهم في أعيننا في كل وقت وحين.
وإضافة لما سبق، فإن الحج ما هو إلا مثال واحد يدل على أهمية وحدة المسلمين، لأن كل عباداتنا وشعائرنا تعكس هذا المفهوم وتؤصله في نفوسنا. وهو ما انعكس على فتوى الفقهاء بالنوازل التي يعايشونها، فمثلاً هذا الفقيه الحنفي، الكمال بن الهمام، يقول حول فداء الأسرى من المسلمين: "إن إنقاذ الأسير واجب على الكل من المشرق، والمغرب". والفقهاء أوجبوا الجهاد على الأمة الإسلامية عند احتلال بلد للمسلمين، وتسيير الجيوش لتحريرها، وكذلك سد الفاقات وإغاثة الجوعى والمحتاجين والفقراء من أموال الزكاة وغيرها. ومن يرجع إلى كتب التراث الفقهي سيجد العديد من النصوص التي تؤكد على هذا الأمر.
الحج ما هو إلا مثال واحد يدل على أهمية وحدة المسلمين، لأن كل عباداتنا وشعائرنا تعكس هذا المفهوم وتؤصله في نفوسنا
إن الحج كان مؤتمراً يناقش فيه المسلمون قضاياهم، وما يستجد عندهم من أمور، ويتبادلون فيه الآراء والنصائح، ويجددون فيه الانتماء للدين ولهذه الأمة، وليس لحدودها القُطرية التي زرعها الاستعمار، وما زال يغذيها في أبناء هذه الأمة.
إن من يستهدفون أمتنا لا يستهدفونها لأسماء دولها، أو ألوان أعلامها، وإنما بسبب دينها وعقيدتها، فإن استهدفت دولة ما، فهذا لا يعني أن الباقي غير مستهدف، وإنما استهدافهم هو مسألة وقت لا غير. ولهذا فنحن بحاجة ماسة لترسيخ مفهوم الأمة في نفوس الناس، إلا أن هذا الأمر سيبقى حبراً على ورق لأنه يحتاج أساساً إلى استقلال الخطاب الديني عن رغبة الحكام والسياسيين، وإلا سيظل هذا الأمر محض أمنيات لا أكثر، وسنظل نعيش في حالة من الاستغراب بين الفينة والأخرى.