السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له، وصبر لمواقع القضاء خيره وشره، وأحس وذاق طعم الإيمان بربه، كما قال الرسول صلى الله وعليه وسلم: (ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً).[رواه مسلم].
و#الرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن، وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة، وهو نعيم المؤمن من هموم الدنيا ومتاعبها، ففيه رضا بقضاء الله وما قسمه الله له، كنزٌ من كنوز النفس؛ لما له من أثر على راحة البال، بدلًا من العيش في حالة تعبٍ وسخطٍ وكدر وضيق مع النفس، فلا ينعم بما أعطاه الله، فالرضا عبادة قلبية، تغيب عن الكثيرين!
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) [رواه أحمد والترمذي]، فالكثير من يجتهد في حياته الدنيا بحثًا عن الرزق، ولكن قدر الله له الفقر المادي، لكن رضاه بما قسم له يجعل له مقامًا كبيرًا عند الله!
ويشير الدكتور زياد مقداد -الأستاذ المشارك في الفقه وأصوله بكلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية- إلى: "أن الرضا: هو قبول لقدر الله وحكمه في السراء والضراء؛ لأن ما قسمه الله لك هو خير، بغض النظر عما كانت شاكلته، يقول الحسين بن علي -رضي الله عنهما- (من اتكل على حسن اختيار الله تعالى، لم يتمن غير ما اختار الله له).

وينبغي أن يكون المسلم على يقين بأن الله -سبحانه وتعالى- قسم الأرزاق بين العباد، وأن لا أحد يستطيع أن يأخذ زيادة عن رزقه، حتى لو جرى في الأرض "جري الوحوش"! ولا يمكن أن ينقص رزق أحد، مهما كان جبروته؛ لأن الرزق يتكفل به الله للإنسان وهو في بطن أمه، فعنْ أبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: حدَّثنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصَّادِقُ المصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيّ أوْ سَعِيد). [رواه البخاري ومسلم].
ويذكر د.مقداد: قول ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام- يَوْمًا فَقَالَ: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).[رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
ويبين أهمية أن يكون الإنسان قنوعًا وراضيًا بما قسمه الله له؛ لما لذلك من حكمة بالغة، ما لم يكن هناك تقصير، ولكن هذا لا ينفي أن يسعى الإنسان إلى رزقه، "السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"، قد قالها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما صلى الناس الجمعة، وجد جماعة في المسجد يقبعون جالسين في المسجد، الناس انتشروا وهؤلاء باقون، فسألهم: "من أنتم؟"، قالوا: "متوكلون على الله"، قال: "بل أنتم متأكلون لا متوكلون، قاعدون تتأكلون، لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني"، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أما سمعتم قول الله (تعالى): {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}[الجمعة، الآية:10]".
د. زياد مقداد: ليس الرضا هو الاستسلام للواقع، بل يمكن تغييره بالسعي، والأخذ بالأسباب، كالتداوي من مرض، أو السعي وراء الرزق، أو دفع ضررٍ ما؛ لأن الاستسلام هو الانهزام
ويضيف د.مقداد: "وليس الرضا هو الاستسلام للواقع، بل يمكن تغييره بالسعي، والأخذ بالأسباب، كالتداوي من مرض، أو السعي وراء الرزق، أو دفع ضررٍ ما؛ لأن الاستسلام هو الانهزام، وعدم بذل الجهد، والأخذ بالأسباب لتحقيق الهدف".
ويشير إلى "أن عدم الرضا نوع من أنواع السخط، ولذلك على الإنسان أن يسعى من أجل الرزق؛ لأن الفقر لا يستطيع تحمله الجميع، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"، ولكن إذا كان هناك إيمان بالقلب فإنه يصبر، ومن لا يستطيع فإنه من الواجب إزاحته وتضييق دائرته من طريق جهات متعددة".

من جهته قال الدكتور صلاح فرج -أستاذ الفقه المساعد بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية-: "إن الإنسان إذا رضي بقسمة الله كان أسعد الناس، والمؤمن يعترف بفضل الله عليه ويظهر نعمة الله عليه، وقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، وقال سبحانه على لسان نبيه سليمان -عليه الصلاة والسلام-: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40]، والله تبارك وتعالى (يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).[رواه الترمذي وأحمد والبيهقي].
ويلفت د.فرج إلى "أن رضا الإنسان بحاله، وبما قسم له من رزق يرفع درجته عند الله، ويزيد من إيمانه، ويحقق له الطمأنينة في الدنيا والآخرة، فحياة الإنسان لا ينبغي أن يكون الهدف منها جمع المال؛ لأن طبيعة الحياة تمر بفترات غنى وفقر، فعليه في الأولى أن يشكر الله، وفي الثانية أن يصبر ويقتنع، ويسعى بالحال إلى نيل ما قسم الله له".
وأشار إلى أن المؤمن يحرص على شكر ربه؛ لينال المزيد، وحتى يتمكن من حفظ نعمة الله من الزوال؛ فإن السلف كانوا يسمونه الشكر الجالب، ويسمونه الحافظ، وقد وعد الله الشاكرين بالزيادة، فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]، والله سبحانه غني عن شكر الشاكرين، ولكننا ننتفع بشكرنا لله، قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}[النمل:40].
والشكر كما عرفه ابن القيم -رحمة الله عليه-: "هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة".
صلاح فرج: تحقيق صفة الرضا، يقتضي إجالة النظر في أحوال الناس الآخرين؛ لتعلم مقدار نعم الله عليك، التي قد يغبطك عليها الملايين من البشر
وقال: إن تحقيق صفة الرضا، يقتضي إجالة النظر في أحوال الناس الآخرين؛ لتعلم مقدار نعم الله عليك، التي قد يغبطك عليها الملايين من البشر، فإن كنت فقيرًا، فهناك من حولك من هم أشد فقرًا.. وإن كنت مريضًا فإن من حولك من هم أكثر مرضا! وألمًا منك، وإن كنت تحس بالحزن وكدر العيش، فإن هناك من حولك من هم أكثر كآبة وحزنًا منك! فارضَ بما قسمه الله لك، وخذ بالأسباب ثم توكل على الله".
ومما يعين الإنسان على بلوغ منزلة الرضا، معرفته للنعم التي يتقلب فيها، فليس المال هو النعمة الوحيدة، وليست النعمة في المال بكثرته، ولكن العبرة ببركته، وبكونه من الحلال الطيب، فيحمد الله على نعمه، ويشكره على هباته وعطاياه، مشيرا إلى أن الشكر أرفع من الرضا، ويكون بالعمل بطاعة الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}[سبأ:13]. وكما قال ابن القيم: "يستحيل وجود الرضا بدون الشكر، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط".
ومما يعين الإنسان على بلوغ منزلة الرضا علمه بضعفه وعجزه، وتذكره لرحمة الله به، وثمرة الرضا والفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى.
وبين فرج أنه "لا مانع من أن يسعى الإنسان في تحسين وضعه، وليس في ذلك اعتراض أو عدم رضا، وكل إنسان مطالب بالسعي والبحث عن الرزق، قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:15]".