يُعَدُّ ملف مسلمي الروهينجيا في #ميانمار، المتفاعل هذه الأيام، أحد أهم الأزمات التي تُبْرِزُ -على المستوى القيمي والأخلاقي، وبعيدًا عن أي جانب سياسي في الأمر- مدى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
وبشكل مجرَّد عن بواعث النظام العسكري الحاكم فعليًّا في ميانمار منذ عشرات السنوات، من الاضطهاد الكبير لمسلمي إقليم "أراكان"، أو موقف الحكومة المدنية التي تقودها أون سان سو تشي –التي من المفارقات التي تبرز حقيقة السياسة الدولية في عالمنا المعاصِر، أنها حاصلة على جائزة "نوبل" للسلام (!!)– فإننا نقف أمام صورة مشوهة للضمير الإنساني، عندما تتحكم الطائفية العنصرية البغيضة، والمصالح الاقتصادية في كرامة وحياة مليون إنسان، أيًّا كانت هويتهم الدينية والعرقية.
التأصيل القانوني للجرائم ضد الروهينجيا:
يرقى ما يجري في ميانمار –وفق القانون الدولي العام في أوقات السلم والحرب– لمستوى جرائم الحرب "war crimes"، وخصوصًا التهجير القسري "Forced displacement"، والإبادة الجماعية "Genocide".
فوفق اتفاقيتَيْ لاهاي لسنة:(1899م)، وسنة:(1907م)، والخاصة بقوانين الحرب، وميثاق محكمة نورمبرج العسكرية الدولية، التي تم تشكيلها لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين واليابانيين، خلال الحرب العالمية الثانية، ثم اتفاقيات جنيف الرابعة للقانون الدولي في وقت الحرب، عام):1949م)، وبروتوكولَيْها الموقَّعَيْن عام:(1977م)، فإن جرائم الحرب هي "انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها، بما في ذلك قتل مدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم، أو قتل أسرى حرب أو إساءة معاملتهم، أو قتل رهائن، أو سلب ملكية خاصة، والتدمير غير الضروري عسكريًّا".
يرقى ما يجري في ميانمار –وفق القانون الدولي العام في أوقات السلم والحرب– لمستوى جرائم الحرب وخصوصًا التهجير القسري والإبادة الجماعية
ومن خلال بنود ومفردات هذه الاتفاقيات والبروتوكولات كافة، فإن أنواع جرائم الحرب، تشمل مجموعة من الإجراءات -التي ثبت بالأدلة البصرية، والتقارير المنقولة على الأرض، سواء لمنظمات حقوق إنسان، أو وكالات أنباء موثوقة أو شهود عيان- أن حكومة ميانمار تقوم بها.
ومن بين هذه الممارسات، الجرائم الموجهة ضد المدنيين: كاغتصاب النساء، والتعدي على الممتلكات الشخصية، والتهجير القسري، والتعذيب الجماعي، والإبادة الجماعية.
وتعرَّف الإبادة الجماعية، كأحد أهم الجرائم التي ترتكبها السلطات الميانمارية ضد مسلمي الروهينجيا، على أنها "سياسة قتل جماعي تقوم بها الحكومات تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو سياسية، بغرض القضاء عليها، أو على الأقل، تطهير مناطق معينة منهم، تحت وطأة عمليات القتل هذه".
ويرتبط بذلك أيضًا، مفهوم الترحيل القسري، حيث إن الترحيل القسري يعني "عمليات طرد منظمة تقوم بها حكومات في حق مجموعات عرقية أو دينية أو سياسية معينة".
الجانب التاريخي للأزمة الحالية:
لا تُعتَبَر الجرائم الحالية التي تتم في حق المسلمين الروهينجيا، جديدة من نوعها، وتسبق بكثير حتى وصول المجلس العسكري الحاكم في البلاد للحكم في العام:(1962م)، حيث تعرض المسلمون الروهينجيا لجرائم حرب من الغزاة اليابانيين، خلال الحرب العالمية الثانية، قُتِل فيها عشرات الآلاف منهم على يد اليابانيين والبورميين البوذيين المتحالفين معهم، وفرَّ أربعون ألفًا إلى بنغلاديش المجاورة؛ بسبب خلافات تاريخية تعود إلى ما يزيد على مائتين وثلاثين عامًا.
فقبل العام:(1785م)، كان "أراكان" -الذي تقطنه غالبية من مسلمي الروهينجيا في جنوب ميانمار -مملكةً مستقلةً، ويعود أصلها إلى هجرات عربية تمت في القرن الثامن الميلادي؛ حيث استقرت هذه الهجرات -التي في الغالب هي من أصول حضرمية يمنية، وعُمانية، مثل الكثيرين في إندونيسيا وماليزيا المجاورتَيْن– في الإقليم المتاخم للحدود الحالية بين ميانمار ومنطقة "شيتاجونج" التابعة لدولة بنغلاديش.
قبل العام:(1785م)، كان "أراكان" -الذي تقطنه غالبية من مسلمي الروهينجيا في جنوب ميانمار -مملكةً مستقلةً، ويعود أصلها إلى هجرات عربية تمت في القرن الثامن الميلادي
ثم قام البورميون –وهم قومية مستقلة تدين بالديانة البوذية– في العام:(1785م)، بغزو إقليم "أراكان" الذي كان مملكة مستقلة في ذلك الحين، وقاموا بارتكاب فظائع في حق المسلمين هناك، ففروا إلى المناطق البنغالية المجاورة، في العام 1799م.
ثم احتل البريطانيون "أراكان"، في مطلع القرن التاسع عشر، فشجعوا البنغال، وخصوصًا في "شيتاجونج" المجاورة، على الهجرة إلى "أراكان"، الذي كان قليل السكان، بينما كانت أراضيه الزراعية خصبة وواسعة، في المقابل انتقل روهينجيون للعيش في الأراضي التي تحولت إلى بنغلاديش حاليًا، حيث انصهر العنصران، البنغال والروهينجيا.
وعندما هاجمت اليابان المستعمرات البريطانية والأوروبية في المناطق الآسيوية المجاورة، خلال الحرب العالمية الثانية، انسحب البريطانيون من بورما، فعادت أعمال العنف بين البوذيين والروهينجيا المسلمين، وقتل كلُّ طرف منهم آلافًا من الآخرين، إلا أن الغلبة كانت للروهينجيا الذين ساعدوا البريطانيين في الحرب، فكان أن سلحتهم بريطانيا؛ لإنشاء منطقة حماية عازلة تفصلهم عن اليابانيين.
وهنا ثمة نقطة توضيحية مهمة يحدث فيها خلطٌ في وسائل الإعلام التي تتناول الأزمة الحالية؛ فـ"الراخين" ليس هو مسمَّى إقليم "أراكان" العربي أو المسمَّى الإسلامي له، بل هم قومية بوذية الديانة، والمشكلة التاريخية، هي بينهم وبين الروهينجيا المسلمين.
أما "بورما" فهي ليست ميانمار كاملةً؛ بل هي إقليم من أقاليم ميانمار، مثله مثل أراكان، ويستند إلى مسمَّى قومية بوذية الديانة كذلك، هي الأكبر في البلاد، وهي الداعم الأكبر لـ"مجلس السلام والتنمية" الذي يمثل واجهة النظام العسكري الحاكم في البلاد منذ العام:(1962م).
المهم أنه بعد الحرب العالمية الثانية، وفي العام:(1947م)، أسس رموز من الروهينجيا، "حزب المجاهدين"؛ لإقامة دولة مسلمة أو كيان ذي حكم ذاتي في "أراكان"، واستمر نشاطهم حتى الانقلاب الذي وقع في العام:(1962م)، بقيادة الجنرال ني وين، الذي شن سلسلة من العمليات العسكرية ضد مسلمي "أراكان"، واستمرت حتى العام:(1982م)، حتى استطاع إخضاع المجموعات المسلحة الروهينجية، وفرَّ الكثيرون منهم إلى بنغلاديش المجاورة.
ولكن لم تخمد الصراعات في الإقليم؛ حيث تتجدد الأزمات ما بين فترة وأخرى، وتمارس السلطات المركزية، والراخين البوذيون، سياسات تستهدف وجود الروهينجيا في الإقليم بالكامل.
وكما تقدم، فإن نظام "مجلس السلام والتنمية" العسكري الحاكم في ميانمار، يستند على القومية البورمية –وهناك قوميات أخرى أصغر في ميانمار– وعلى الديانة البوذية، من أجل فرض نفوذه. واضطهد في المقابل كل مَن هو ليس بورميًّا أو بوذيًّا، بما في ذلك الصينيون المسلمون، مثل "الكوكانج" و"البانثاي".
الجانب الاقتصادي للأزمة:
وبما أن الروهينجيا من الأصل لم يكونوا جزءًا من إقليم دولة البورميين السابقة على ظهور ميانمار الحديثة، وامتزجوا عبر القرنَيْن الماضيَيْن، مع البنغاليين؛ فإنهم غير معترف بهم كمواطنين في ميانمار، وتصنفهم الأمم المتحدة كأكثر الأقليات اضطهادًا في العالم، وأكثر شعوب العالم بلا أصدقاء.
في المقابل فإن حكومة ميانمار تريد أراضيهم. فهي لا تريد الاعتراف بهم باعتبار أنهم يقطنون –منذ مئات السنين– هذه الأرض، ومن قبل وصول البورميين البوذيين إليها، ولا تريد في الوقت ذاته منحهم الاستقلال، فقط تريد الأراضي التي يقيمون فوقها، وترحيلهم إلى بنغلاديش المجاورة، باعتبار الانصهار القومي والتشابه الديني بين الجانبَيْن؛ من أجل استغلال المكامن الاقتصادية الموجودة في الإقليم، وهي متنوعة، ولكن يكفي فيها موقعه التجاري والبحري المهم، والذي يجمع أطراف المحيطَيْن الهادي والهندي، مع دول كبرى اقتصاديًّا وسكانيًّا، مثل إندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش، تشكل سوقًا مهمًّا للغاية للتنين الصيني المجاور، والذي يتشارك المطامع مع حكومة ميانمار، في أراضي إقليم "أراكان".
لا تريد حكومة ميانمار الاعتراف بالمسلمين باعتبار أنهم يقطنون –منذ مئات السنين– هذه الأرض، ومن قبل وصول البورميين البوذيين إليها، ولا تريد في الوقت ذاته منحهم الاستقلال، فقط تريد الأراضي التي يقيمون فوقها، وترحيلهم إلى بنغلاديش المجاورة
تجددت أزمة العنف في إقليم "أراكان" ضد مسلمي الروهينجيا، في العام:(2012م)، ويبدو أن الأمر كان هذه المرة مرتبطًا بمصالح اقتصادية، عقدت من أوضاع الأقلية المسلمة هناك.
ففي العام:(2013م)، تكشفت بعض الأمور التي تؤكد ذلك؛ حيث بدأ إنتاج الغاز الطبيعي من حقل "تشوى" البحري في ميانمار، بتمويل من شركتَيْ "بتروتشاينا" الصينية و"داي وو" الكورية الجنوبية، (يُطلق عليها في العالم العربي اسم "دايو)، باستثمارات قيمتها 2.5 مليار دولار.
وتمامًا مثلما حصل بين:(2012م) و(2013م)، في أبريل(2017م)، بعد أشهر كذلك من تجدد الأزمة في خريف العام:(2016م)، وقع الرئيس الميانماري، تين تشاو، وهو أول رئيس "مدني" للبلاد، وهو من البورميين البوذيين، مع الرئيس الصيني، شي جين بينج، على اتفاقية لبدء استخدام خطَّيْ أنابيب النفط والغاز من ميناء "تشاوبيو" بولاية "أراكان"، إلى ميناء كون مينج بجنوبي الصين.
وللمفارقة الزمنية، فقد تم البدء في إنشاء هذه الخطوط في العام:(2013م)، باستثمارات بلغت 3.5 مليارات دولار، وبدء العمل فيها، في مايو(2017م)، وذلك ضمن استثمارات قُدِّرت بعشرة مليارات دولار خصصتها الصين؛ لإقامة منطقة اقتصادية خاصة في ميناء "تشاوبيو" في "أراكان"؛ حيث تجري بكين الآن مفاوضات من أجل شراء حصة 85% من الميناء.
وتعود الأهمية الاستراتيجية للميناء ولإقليم "أراكان" بالكامل بالنسبة للصين، أنه بحسب الخبير الاستراتيجي البورمي، ثانت مينت، يوفر ساحلاً ثانيًا للمقاطعات الداخلية البعيدة في الحدود الجنوبية الغربية للصين، ويوفر لها منفذًا بحريًّا، وميانمار بالكامل تمثل هذا الساحل بالنسبة للصين.
ويكمل الصورة الصينية في الخلفية، أن الصين بدأت في تنفيذ منطقة اقتصادية خاصة في بنغلاديش، باستثمارات تقدَّر بخمسة وعشرين مليار دولار.
ولكن الصين لا تدعم خيارات العنف ضد الروهينجيا، وتفضل الحلول السلمية للأمر؛ لحماية استثماراتها من التدخلات الدولية.
ولذلك تسعى الصين إلى أن تقنع حكومة بنغلاديش باستقبال الروهينجيا لديها، ومنع وصول السلاح لفصيل روهينجي مسلَّح، يحمل اسم "جيش خلاص أراكان"، أو "جيش إنقاذ الروهينجيا" في مسميات أخرى، وهو الذي نفذ قبل أسبوعَيْن هجمات على مصالح أمنية وعسكرية ميانمارية، قتل فيها العشرات!
ويعود ذلك إلى أن العنف الحكومي والشعبي الميانماري ضد الروهينجيا، سوف يوفر فرصة لخصوم ومنافسي الصين في آسيا، وفي الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص؛ لضرب المصالح الصينية هناك، باسم حماية حقوق الروهينجيين، الذين يتعرضون لإبادة جماعية.
وبالفعل، فإن الهند المنافس التقليدي للصين في آسيا، والولايات المتحدة -الخصم التجاري والسياسي الأول للصين على المستوى العالمي- تمارسان ضغوطًا مقابلة على حكومة بنغلاديش؛ لعدم الاستجابة للطلبات الصينية.
ولذلك فإن الصين تحتفظ باتصالات جيدة مع إيه ماون، رئيس حزب "أراكان" الوطني، الذي يمثل كل أقليات "أراكان"، والروهينجيا منهم، من أجل التوصل إلى حلٍّ سلمي للأزمة.
وفي النهاية، نقف الآن أمام مواقف رسمية عربية وإسلامية مخزية، وشعبية عاجزة بفعل أزماتها الداخلية.
فحتى حكومات الدول المسلمة التي انتفضت شعوبها ضد ما يجري في "أراكان"، مثل ماليزيا وإندونيسيا، واحتجت لدى رانجون على ما يجري ضد المسلمين الروهينجيا هناك؛ فإنها ترفض استقبالهم حتى كلاجئين، وتحتجزهم على الحدود، بينما حكومة بنغلاديش أمرت شرطتها باعتقال كل من يحاول الفرار من الروهينجيا عبر نهر "ناف" الفاصل بين البلدَيْن.
وأمام كل ذلك، من مواقف سلبية للحكومات، وعاجزة للشعوب، وجائرة ومتوحشة من "تايكونات" الاقتصاد العالمي؛ فإن الروهينجيا لا يملكون سوى الدعاء الخالد الذي لا يخيِّب صاحبه رجاء داعيه: حسبنا ونعم الوكيل!