1. "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" [الأنبياء: 23]
سنن الله في الأسباب والمسببات ليست رياضيات قطعية، ولا هي ملزِمة لله تعالى وهو المتصرف كيف يشاء، فهو الذي يسبب السبب أو يمنعه. ومن جهة أخرى، ينبغي دوام التنبه إلى أن الأصل في هذه الدار الاختبار لا الجزاء، وكل ما يوفّاه العباد هنا نفحات مما يُنتظر في الدار الآخرة ليس إلا. والحرية التي منحنا الله إياها هي امتحان وتكليف لا مغنم وتشريف.
فحقيقة الحرية التي امتحننا الله بها، لا تكمن في تصريف الأقدار على ما نهوى، ولا تطويع سنن الكون على ما يرضينا، ولا تحصيل نتائج على قدر ما نأتي من أسباب. بل هي حقيقة في تصريف هوانا نحن ليكون تَبعًا لما قضى به مولانا، وتطويع إرادتنا نحن لتسلّم له تسليم موقن فيه بما هو أهله، وليس بمجرد ما تبدو عليه ظواهر التقدير من نعم وبلوى. ثم مجاهدة أنفسنا وهواجسها وظنونها الضيقة المتحجرة، لتسّلم فتسلَم، ليس استسلام متخاذل بل تسليم راضٍ بما يرتضي له سيده وربه وخالقه ومالكه، مطمئنًا إلى أن عاقبة أمره كله -كله- خير، مادام يشكر ويصبر، ويأخذ بالأسباب سعيًا على الأرض تحقيقًا لغاية العبودية ليس إلا، لكن رجاءه وأمله ونظره معلق بالسماء.
هذا هو قَدْر ما يتاح لنا من حرية على الحقيقة، وهذا مناط الاختبار، ومحل تفاوت درجات المؤمنين أنفسهم: أن تعقد جدائل قلبك على عقيدة محبة وولاء وثقة مطلقة، فلا يكن في صدرك منه حَرَج ولا هاجس. وأنت في كل يوم تربط عقدة، أو تحل عقدة، حتى تلقى ربك، فتوفى عند ذاك الجزاء الأوفى. وأما القَدَر فهو سيجري على كل حال بما كان "رُفِعَت الأقلام وجَفّتِ الصّحُف"، فإما أن يجري عليك مأزورًا، أو مأجورًا. الاختيار لك، والعاقبة لك أو عليك.
2. "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً" [الطلاق: 3]
حقيقة غاية التخطيط ومراده هو التعبد لله بمفهوم "الإعداد" الذي أمرنا به ، لأن الحرص على الإعداد من علامات الجدية في تحمّل المسؤولية، خاصة حين ننظر للدنيا بالمنظور الرباني على أنها حرث للآخرة ومزرعة لها. فمن ذا الذي يؤتيه الله أرضًا ثم لا يهتم باستثمار كل شبر فيها وتنويع بذورها ليحصد منها أفضل ما يستطيع؟ فأي بذور أغلى بالتعهّد من أنفاس الإنسان؟ وأي أرض أولى بالاستثمار من العمر؟وقد جرت سنة الله تعالى في الكون بأن يجعل للمُسبَّب سببًا، ليكون أخذ عبده بالأسباب وبذل جهده في الطلب من حسن طاعته وصحة التوكل عليه. ومن هنا فتمام التعبد عدم التشنج لذات الأسباب أو حسابات النتائج، وتعليق الرجاء بالله تعالى وفضله وحده.
فالأخذ بالأسباب ليس إلا فعل عبادة من بين أفعال في منظومة العبودية الشاملة لله تعالى، والأخذ بها غايته التعبد لا التعلق بما تأتي به من نتائج، لأن الأسباب بذاتها لا تؤدي لشيء إلا بما أذن الله به وقضى بأن جعلها كذلك.
غاية الأخذ بالأسباب التعبد لا التعلق بما تأتي به من نتائج، لأن الأسباب بذاتها لا تؤدي لشيء إلا بما أذن الله به وقضى بأن جعلها كذلك
والمؤمن الذي لا يأخذ مفهوم الإعداد وسبب التخطيط مقصّر في التعبد بهذا السبب، ومن هنا يكون التقصير في توكله بحسبه. وقد ينتهي به المطاف محتارًا متخطبًا مشتت الجهود في مسارات الحياة، مع أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد تركنا على محجّة بيضاء ونهج واضح لا يَزيغ عنه إلا هالك، وذلك في تصورات الوجود الكبرى وفي دقائق الأعمال كذلك.
ففي حين يقطع صاحب الإعداد الطريق على بصيرة ويوفر على نفسه ومن عمره كثيرًا من مزالق التجارب غير المسددة، ويحسن التعبّد لربه باستكماله الوسع في استثمار أنفاسه وغربلة أولوياته وتعهد مقاصده، تجد غير المُعِدّ يخبط في عمى ولو بحسن نية، و لو أحسن الفهم لأحسن التوكل ، ولو أحسن التوكل لاستكمل من الأسباب ما وسعه، لأن سنن الله تعالى في الكون والحياة والتقدير وسداد السعي بيّنة، وليست دراما غامضة كما قد يخيل للكثيرين بسبب قلة الفقه وغفلة مقاصد السير.
وتسلسل ما سبق يلفت النظر إلى أهميّة تحرّي "الأسباب" عندما نتكلم عن إتقان العمل وحسن الفهم لطبائع الأشياء، وليس الأخذ بأي أسباب والسلام. وفي المثال التالي ما يبيّن المقصود:
عندما يسعى طالب لتعلم لغة ما، تجد “الأسباب” المتعارف عليها هي المسارعة بالتسجيل في كورس أو تتبع المدرسين الأعلى كلفة أو حشد المكتبة بالكتب وتحميل جهازه بالمواد اللغوية … إلخ. هذه كلها ليست "أسباب" طلب العلم باللغات، بل صور ممارسات شائعة لمن يريد التعلم عامة أو تعلم اللغات خاصة، وهي في غالبها خاطئة المنشأ والمبدأ والمنتهى، لذلك يندر أن تثمر ثمرًا نافعًا مهما بذل المرء وسعه في الأخذ بها، فتأمل! إنما حقيقة الأسباب الموصلة لتعلم لغة ما، تتعلق أول ما تتعلق بالعلم، ثم بطبيعة اللغة. فالذي لا يملك مفاتح العلم الأولية من جدية ذاتية ومسؤولية فردية وحرص على النظام والمثابرة والصبر على النتائج والمنهجية في الطلب، لن تنفعه أي أسباب “خارجية” في أي نوع من العلوم كانت، لأن العلم لا يُسقى بملعقة وإنما يطلب بشق النفس. وقد ينبغ طالب في أصعب ظروف التعليم وفي غياب كفاءة المعلمين، لجِده في الطلب الذاتي وعزمه على البلوغ وصدق استعانته بالله، ولا يتعلم آخر مهما كان معلمه حائزا على شهادات عالمية!
الذي لا يملك مفاتح العلم الأولية من جدية ذاتية ومسؤولية فردية لن تنفعه أي أسباب “خارجية” في أي نوع من العلوم كانت
وأما ما يتعلق بطبيعة اللغة، فأول الأسباب الموصلة للتمكن من اللغة هو الممارسة المتوازية مع البناء العلمي، وليست المنفصمة عنه. فكم من دورات تقوم على الممارسة فحسب بمعنى ترك الطالب يَهطِل بالكلام على علته، زاعمين أنه مع الوقت “يكتسب” الصواب، دون العناية ببناء أساس علمي! و منذ متى كان الوقت وحده يغير أي شيء ! فلا بد أن يحيط الطالب نفسه بممارسات لغوية صائبة يحاكيها هو في البداية، قبل أن ينطلق في الممارسة بمفرده، فيسمع كثيرًا ويقلد ما يسمع، وينتبه للتراكيب وهو يقرأ ويمضي على نسقها في إنشائه، وهكذا. كذلك كثير من الدورات اللغوية تعتمد عيون الأدب وأمهات الكتاب في التدريس، وهذا مخالف لقوانين تطور اللغة ناهيك أن يكون من أسباب تطويرها! فلا بد من المرحلية والمنهجية بأن يُعامل كل متعلم للغة ما على أنه كالطفل فيها، فيترقى في مراحلها كالطفل في التعامل مع لغته الأم، وبالتالي لا يعود اكتساب اللغة عذابًا مُقيمًا ومخالفة مستمرة للنهج الطبيعي في تشكيل ملكات النطق والسماع والفهم السريع.
3. " كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا" [الإسراء: 20]
ينطبق ما سبق من سنن التخطيط والتقدير على المؤمن وغيره. وفي الحديث: "لو كانتِ الدنيا تَعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء" [الترمذي]. أما غير المؤمن بالله فإذا أذِن الله بنجاحه في الدنيا، يظل خائبًا في الآخرة، وإذا خابت مساعيه في الدنيا فقد خاب كغيره في الدنيا، ويزيد عليه في الآخرة ؛ فهو في الحالتين خاسر!
أما المؤمن فسواء أذِن الله بنجاح مساعيه، أو خابت لتقصير منه أو ابتلاء من الله، فهو في الحالتين أفلح، لأنه تعبّد لله ببذل الوسع، ولأنه يرجوه احتسابًا، فعاقبته في كلٍّ خير في ميزان الله تعالى.
سواء أذِن الله بنجاح مساعي المؤمن، أو خابت لتقصير منه أو ابتلاء من الله، فهو في الحالتين أفلح، لأنه تعبّد لله ببذل الوسع، ولأنه يرجوه احتسابًا، فعاقبته في كلٍّ خير في ميزان الله تعالى
فالله يوفق المؤمن خاصّة لحسن التعامل مع كل السياقات بما يضمن حسن عاقبته في المحنة والمنحة على السواء، في حين غير المؤمن لا يوفق لذلك ويوكل لنفسه فعاقبته خسران في كل الحالات. وهذا الفهم هو مضمون تقريره صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ (أي في المحنة والمنحة) وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ(لأنه الذي يفقه كيفية التعامل مع أمر الله كما يريد الله): إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خَيرًا لهُ (أي كان تعامله بالشكر هو الخير وليس السراء في حد ذاتها) وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكان خَيرًا لهُ (أي تعامله بالصبر هو الخير وليس الضراء نفسها)". [مسلم]