ثلاثون عاماً أو يزيد هي جملة ما قضاه الشيخ المجاهد محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للإخوان المسلمين في سجون الطغاة ابتداءً من الملك فاروق في ظل الحكم الإنجليزي ومروراً بعبد الناصر في ظل الاحتلال الصهيوني، وختاماً وهو الشيخ التسعيني في ظل حكم الطاغية الانقلابي، ليختم تاريخه النضالي لنصرة دينه وتحرير شعبه في سجون الطغاة غير مقصر أو مهادن أو متخاذل أو مطأطئ الرأس مطالباً بعفو صحي، وهو المريض الذي يستحق التكريم لا السجن والتشفي والانتقام الخسيس من نظام لا يقدر قيمة الرجال.
هو المرشد السابع في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، كما أنه صاحب لقب أول مرشد عام سابق للجماعة حيث تم انتخاب الدكتور “محمد بديع” خلفاً له عقب انتهاء فترة ولايته لعدم رغبته في الاستمرار بالمنصب لتكون الواقعة الأولى من نوعها.
كان المرشد محمد مهدي عاكف صاحب لقب أول مرشد عام سابق للجماعة عقب انتهاء فترة ولايته لعدم رغبته في الاستمرار بالمنصب لتكون الواقعة الأولى من نوعها
ولد الشهيد بإذن الله “محمد مهدي عاكف” يوم 12 يوليو لعام 1928م مع ميلاد الجماعة، وفي عام 1950م تخرج من المعهد العالي للتربية الرياضية ثم التحق بكلية الحقوق عام 1951م.
بدأ المرشد السابق مشواره المهني من خلال العمل مدرساً للرياضة البدنية في مدرسة فؤاد الأول الثانوية، حتى تعرف عام 1940م على شيوخ جماعة الإخوان المسلمين حيث تأثر بأفكار العديد من علمائها خاصةً “محي الدين الخطيب”، فكان رئيساً لقسم التربية الرياضية بالمركز العام للجماعة، كما كان رئيساً لقسم الطلاب قبل صدور قرار بحلها عام 1954م.
واجه “مهدي عاكف” خلال مشواره مع الجماعة العديد من الصعوبات حيث تم إلقاء القبض عليه أول أغسطس من عام 1954م بتهمه تهريب اللواء “عبد المنعم عبد الرؤوف” أحد قيادات الجيش وأحد أعلام الإخوان، والذي أشرف على طرد الملك “فاروق” وصدر ضده حُكماً بالإعدام وتم نصحه بأن يقدم التماساً لعبد الناصر لتخفيف حكم الإعدام عليه لكنه أبى أن يدنس يده بكتابة التماس وفضل الموت عليه. لكن الحكم تم تخفيفه بالفعل دون طلب إلى الأشغال الشاقة المؤبدة فيما بعد.
وكان “عاكف” ضمن القيادات الإسلامية التي تم تقديمها للمحاكمة العسكرية عام 1996م في القضية المعروفة بـ (قضية سلسبيل)، حيث اتهمه الإدعاء بالمسئولية عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ليخرج عام 1999م.
جاء محمد مهدي عاكف في المرتبة الـ12 ضمن 50 شخصية مسلمة مؤثرة عام 2009م وفقاً لكتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن.
شارك عاكف رحمه الله في مقاومة الإنجليز في عهد الملك فاروق، وكان ضمن الفدائيين الذين آوتهم الشرطة في الإسماعيلية، وكان رئيس معسكرات الفدائيين بجامعة عين شمس لتدخل في مناوشات مع القوات الإنجليزية ويستشهد فيها من يستشهد ليصير عيداً للشرطة في كل عام احتفاءً بتلك الذكرى وتشهد القناة ومدنها على جهاد الشيخ البطل هو والمئات من إخوانه حتى الجلاء الإنجليزي ليستمر الشيخ بعد ذلك في مقاومة الصهاينة على نفس الأرض حتى تحرير البلاد من دنسهم.
انتخب عاكف مرشداً عاما لجماعة الإخوان المسلمين لتشهد الجماعة نقلة نوعية في عهده وذلك بالانفتاح الهائل على المجتمع و على الأحزاب السياسية التي قام بفتح حوارات معها، ويعلن اسم الجماعة بوسائل الإعلام بشكل رسمي على لسان مرشدها وليدخل الإخوان لمجلس الشعب بعدد 88 عضواً لأول مرة في تاريخهم.
بعد الانقلاب الغاشم في 2013 كان من أوائل المعتقلين وهو يشرف على التسعين من العمر دون مراعاة أي عامل إنساني من هؤلاء الخصوم المتجردين من كل معاني الإنسانية، وللمرة الثانية ينصح الشيخ بأن يقدم التماساً لطاغية جديد بأن يخرج بعفو صحي وهو المصاب بالسرطان ليتلقى العلاج المناسب وليقضي آخر أيامه على سرير في بيته، لكنه بكل صمود يأبى التنازل ويأبى أن يدنس تاريخه المشرف بكتابة مثل هذا الالتماس ليسلم الشيخ روحه بما يليق به من جهاد، وبما يليق به من مكانة بين الأحرار الأطهار وهو في سجنه رافعاً هامته في سماء الحرية.
ويأبي النظام الغاشم إلا أن يعطي الشيخ ما يستحقه من تكريم يليق بحياته، فيدفن كما دفن أستاذه البنا عليهم رحمة الله جميعاً، وتمنع الصلاة عليه في أي مسجد من مساجد مصر، ولا بالمقابر، ولا يشيع جنازته إلا ما تبقى من أسرته البسيطة زوج ابن أخته والمحامي وثلاثة من عساكر الشرطة.
لا تضيعوا رسالته!!
إن للثبات دروساً عملية يلقيها علينا نوعية خاصة من البشر، نوعية اختارها الله عز وجل لتعلمنا أن العمل للدين أغلى من الروح وأغلى من التماس الراحة بمهادنة الحاكم، حتى لو كان المعلم رجلاً في التعسين من عمره، أبى الانبطاح في الوقت الذي انسحب فيه الكثيرون القادرون على المواجهة بحجة الخوف من الفتن فيذكرنا بقوله تعالى {ألا في الفتنة سقطوا}.
يساوم الشيخ على كتابة التماس فيجيب في ثبات: "لا أكون فتنة لشباب أفنيت عمري في تربيتهم على الثبات"، ثم يقول رحمه الله: "أنا لست أخاف الموت، أنا خائف على بلادي مصر"، أي ثبات يعلمه إيانا ذلك الرجل!
إذا أردت أن تموت على شيء فلتعش عليه، فلا موت في سبيل الله إلا بحياة في سبيله، ولا ثبات عند لقاء الموت، إلا بثبات عند لقاء العدو، ولا موتة تليق بمجاهد إلا بحياة تليق به
إن العمر مهما طال فسينتهي، لكنك إذا أردت أن تموت على شيء فلتعش عليه، فلا موت في سبيل الله إلا بحياة في سبيله، ولا ثبات عند لقاء الموت، إلا بثبات عند لقاء العدو، ولا موتة تليق بمجاهد إلا بحياة تليق به، إنها حياة ابن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام وعمر المختار والمهدي عاكف ثم وفاتهم التي كانت فخرا كحياتهم.
إن وفاة فضيلة المرشد مهدي عاكف إن لم تكن دافعاً قوياً لتوحيد الكلمة وتصحيح المسار وتوحيد الصفوف تحت راية واحدة فهناك شيء ما خطأ، إن لم يكن ثباته على الفكرة وتضحيته في سبيلها في هذا السن وتحت آلة الطغيان دافعاً للتضحية للقادة والجنود في ذات الوقت ودرساً حيا فهناك خطأ ما يجب تداركه!
إن لم تكن وفاة فضيلة المرشد مهدي عاكف دافعاً قوياً لتوحيد الكلمة وتصحيح المسار وتوحيد الصفوف تحت راية واحدة فهناك شيء ما خطأ يجب تداركه
إن تلك الدعوة تستحق التضحية بالغالي والنفيس، ولا راحة إلا ببذل الروح راضين مختارين ملازمين الجماعة مفارقين الفرقة والتشتت الذي لا يخدم في النهاية إلا العدو فلنحذر.
أيها الإخوان المسلمون، أيها العاملون على طريق الدعوة، هذا أستاذكم الشيخ فاضت روحه وقت المحنة مريضاً سجيناً صابراً محتسباً لم تلن له شوكة، فماذا أنتم فاعلون؟
هل تتعلمون الدرس القاسي والذي كان ثمنه حياة شيخ يحمل روح عشرات الشباب، أم تضيع الفرصة ونسلم ونستسلم ونخضع لما يراد بنا ونظل لعبة في يد أعدائنا يمزقون أشلاءنا بفرقتنا كيفما ووقتما شاؤوا؟
رحم الله الشيخ، عاش عزيزاً ومات شهيداً.