ظاهرة إدمان متابعة الشخصيات المشهورة!

الرئيسية » خواطر تربوية » ظاهرة إدمان متابعة الشخصيات المشهورة!
facebook22

1- افتتان واكتئاب

يبدأ الإشكال حين تتخذ المتابعة المُهلِكة للشخصيات الجماهيرية صورة "الافتتان" و"الانبهار" بإدمان يومي أو دوري ، متستر غالبًا وراء دعاوى: "الانتفاع"، و"الاستفادة". فمع المعلومة الواحدة التي يستقيها المتابع، يستقي الأرقام المذهلة لعدّادات الإعجابات والتعليقات، وأجواء "اللمعان"، المحيطة بتلك الشخصية وتدويناتها.

ومع الوقت يتولّد عن ذلك الانبهار بالآخَر "حسرة" بالضرورة على الذات، وتبدأ عُقَد عَقْدِ المقارنات بين النفس وذلك الآخر، خاصة لو أنه في مجال من المجالات التي يحبها أو يطمح إليها المتابع، وتبدأ تساؤلات: "أين أنا من ذاك؟"، و"أنّى أبلغ ما بلغ؟"، ويكون وجه المقارنة الحقيقي والكامن وراء تلك الحسرات، ليس مشوار العلم، والتعب، والدأب الكامن وراء البريق، بل في الحقيقة أرقام الإعجابات وعدادات التعليقات، التي لا تبلغ صفحة المتحسّر منها شيئًا يذكر! فالآخر يحصد الآلاف من "اللايكات" في ساعة، بينما لا يكاد يبلغ الآخر عشرة معجبين، أغلبهم أو كلهم من معارفه المباشرين، مع أنه كتب كلامًا في نفس المعنى!

2- تباهٍ بالمحاسن أم متابعة للحسنات؟

والطريف المؤلم في آن واحد، أن تُلبَس أجواء التهلف على اللمعان ونفسية التسميع والمراءاة والشهرة أثوابَ "حب الخير"، و"اشتهار الصلاح" (لا المُصلِح!) و"الرغبة في الوصول للناس لنفعهم" (لا للانتشاء بالمتابعين!)... إلخ. ويعين على تلك التلبيسات أفهام مشوهة أو معدومة لمصطلحات "القبول في الأرض"، و"الرضا في السماء"، و"تقسيم الأرزاق"، و"الحظ من مودة القلوب"، والفوارق بين التسميع والتبليغ، والنشر والإشهار... إلخ، في دوامة لا منتهى لها، من غياب التصور الإسلامي للوجود من البداية، وادّعاء متابعته في النهاية.

وكم ممن حولوا صفحاتهم لصالون عرض مفتوح لمفاتنهم، ومحاسنهم، وأخص أحوالهم الشخصية!   ويظنون أنهم يدرءون عن أنفسهم العجب، والسمعة، والمراءاة، بعبارة في الختام، بحمد الله على التوفيق والهداية... والستر! وفي المقابل، كم من المتابعين من ينشر عن فلان أو فلانة، لا رغبة في الخير الكامن وراء النشر، ولا لتعميم المعلومة النافعة، وإنما ليعكس شيئًا عن نفسه على صفحته لمتابعيه! وهذا الدافع بالذات أعظم الدوافع التي تنشّط الناس في النشر عن الناس؛ لأنه إنما يخبر عنهم هم، ثم يدّعون حرصهم على "الشير في الخير" و"أعيش للغير"!

وإذا كان الفاروق عمر -رضوان الله عليه- يسأل عن نفسه؛ خشية أن يكون من المنافقين! وقد بُشّر بالجنة في حياته، ومن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، فكيف بنا والواحد لا يأمن على نفسه في خبيئة، أن تكون خالصة لله من حظوظ نفسه! ثم ندعي أننا نجد الله (ونتيقن إخلاصنا له!!!) في أجواء البريق واللمعان، وحمى عدادات التعليقات والإعجابات!

إذا كان الفاروق عمر -رضوان الله عليه- يسأل عن نفسه؛ خشية أن يكون من المنافقين، وقد بُشّر بالجنة في حياته، ومن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، فكيف بنا والواحد لا يأمن على نفسه في خبيئة أن تكون خالصة لله من حظوظ نفسه

ومهما ظن الناس بك، مما يقال عنك، أو تقول عن نفسك، فلن يغلب ظن الناس بك علمك بحقيقة حالك، وما بينك وبين الله أنت تعلمه، وصدق حبك لله يتجلى أشد ما يتجلى في تلك الأعمال التي لن يصفق لك عليها الجمهور، ولا تأتيها لأجل أن تكتب عنها لاحقًا للجمهور، ومنها: تقديم محاب الله على هواك، والتي منها الصلاة على وقتها، لا تأخيرها ريثما تتم شكر المتابعين على الإعجابات!

فعجبًا لمن يدعي أنه يجد الله هنا، ثم لا يكاد يطيق صبرًا على الخلوة بنفسه لربه! وينادي بحبه للعلم ومتابعته لصفحات العلماء، ولا يكاد يصبر على رباط العلم ساعة دون أن يحدّث جمهوره بالسطر الذي قرأه، والصفحة التي أنهاها!

عجبًا لمن يدعي أنه يجد الله هنا، ثم لا يكاد يطيق صبرًا على الخلوة بنفسه لربه! وينادي بحبه للعلم ومتابعته لصفحات العلماء، ولا يكاد يصبر على رباط العلم ساعة دون أن يحدّث جمهوره بالسطر الذي قرأه، والصفحة التي أنهاها

3- "هيلمان" الثقافة ورسوخ العلم.

من جهة أخرى، مهما أفاد متابع من تدوينات الفيسبوك وغيره من وسائل التواصل الخفيفة، فهذا لا يبني فيه علمًا، أو شيئًا على الحقيقة، وإنما هي أجواء وهمية من "هيلمان" ثقافة في رأسه عن نفسه. ومهما تابعت فلانًا في كل ما يكتب، فليس كمصاحبته شخصيًا، ولا كالاستماع لسلاسله ودروسه، أو مطالعة مؤلفاته ومطوّلاته، حيث تقبس من عصارة وجدانه وفكره على الحقيقة بصورة متكاملة.

وتذكر أن وراء كل "مظهر" ناجح، خلفية طويلة من تعب ما، وجهاد ما في مسار ما ، فليس الأصل أن يولد المرء عالمًا أو متمكنًا من مجال ما، وإنما الصبر والمِران.

هذا ولو ننفق عُشر الوقت الذي نكب فيه الروؤس على الهواتف، لنكبها على صفحات كتاب أو محاضرة، لقل عدد المتفلسفين والمتصدرين بجهل، ولسكت كثير من الثرثارين المهذارين حين يدركون حجم مسؤولية الوجود وواجبات الإيمان، ولعَمَر كل منا جزأه من الوجود عمرانًا يفرّغ غيره لنصيبه، بدل أن يصيح الكل في الكل، ويتداخل اختصاص كل في كل، ولا يبلغ أحد شيئًا.

لو ننفق عُشر الوقت الذي نكب فيه الروؤس على الهواتف لنكبها على صفحات كتاب أو محاضرة، لقل عدد المتفلسفين المتصدرين بجهل

4- جماهيري أم جمهوري؟

ليست كل شخصية جماهيرية تستحق جماهريتها وانكفاء الناس على متابعتها، فهناك من يُكْسَوْن حلل العظمة، وهم منها خَوَاء، ببساطة لأن الذين ألبسوهم إياها جماعة من الحمقى! والكثرة تغلب الشجاعة، وقد تغلب الحكمة والعقل كذلك!

وإني لأعلم من العلماء بالله وبشرعه، ومن المختصين الراسخين فيما فتح الله به من علوم الدنيا، ممن هم جبال آدمية أرسى الله بها ميزان النور والهداية في الأرض، يقدّرون للكلمة قدرها وحسابها، لا تكاد تبلغ عدادات متابعيهم عشر ما عند فلان وفلان، من مشاهير الشباب "الكول"، الذين حظ أحدهم من الفهم (على فرض وجوده!) في حجم البندقة! ومع ذلك يقذف بالكلام على عواهنه كالصواريخ!

وأعلم من يمر بأحوال تنوء بحملها الكواهل، ولا يشتكون حسبة لله واستغناء به، في مقابل الذين لا يبخلون على الناس بأية تفصيلة من أحوالهم حتى العطسة والكحة!

والله بعباده خبير بصير..

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …