تُعتبر #العدالة هي أهم الأركان التي يقوم عليها العمران البشري السليم، بل إن العدالة بصورها المختلفة، ومختلف أركان معاني المصطلح ومحتواه، مثل التوازن، هي ضمانة استمرار الحياة، والكون، إلى أن يأذن الله تعالى، وينهي الحياة الدنيا بالصورة التي خلقها عليها منذ القديم، وكما نعرفها نحن.
وهو أمر واضح حتى من الأساس اللغوي، فالعدالة لغةً: هي الاستواء أو الاستقامة أو كلاهما معًا. والعدل كذلك هو المتوسط فى الأمور، من غير إفراط في طرفَيْ الزيادة والنقصان. ["مختار الصحَّاح"، و"المحيط" وغيرها].
وبالتالي؛ فإن العدالة بمعنى المساواة والتوسُّط والتوازن، تحمل في طياتها عوامل البقاء، في المقابل، فإن النقيض، وهو الظلم والجور، هو أهم أسباب انهيار المخلوقات، سواء أكان الأمر يتعلق بجمادات، أو مخلوقات حية؛ سواء في سياقاتها الفردية، أو في سياقاتها المجتمعية.
وهذا الأمر بديهي لدى علماء الاجتماع والعمران، فمن أهم العبارات المأثورة عن ابن خلدون -مؤسس علم الاجتماع- أن "الظلم مؤذن بخراب العمران".
وهو أمر يعود إلى الفطرة البشرية السليمة، ولذلك فإنه من أقدم الرموز الحضارية المعروفة منذ الحضارات البشرية القديمة، هو ميزان العدالة الشهير، الذي نجده في كل الحضارات الإنسانية تقريبًا، وتماثيل العدالة -سواء تلك التي تجسد امرأة تحمل ميزان العدالة في يد، والسيف في اليد الأخرى، أو تحمل الميزان بينما تعصب عينيها- دلالة على الحيادية بين المتخاصمَيْن.
وفي هذا الإطار، فإنه من بين أهم المجالات التي تتحقق فيها العدالة بين البشر، هي ساحات القضاء؛ حيث يحكم القانون بين الناس كافة، وفق ميزان العدالة، وعلى أسس من النزاهة والموضوعية والحيادية.
وهو أحد الضمانات المهمة لاستقرار المجتمعات؛ حيث إن فقدان الناس لثقتهم في منصة القضاء ونزاهتها؛ سوف يدفعهم إلى الحصول على حقوقهم بأنفسهم، وهو ما يعني فوضى اجتماعية، وهو بكل تأكيد من عوامل ضعف بل انهيار المجتمعات.
إن فقدان الناس لثقتهم في منصة القضاء ونزاهتها؛ سوف يدفعهم إلى الحصول على حقوقهم بأنفسهم، وهو ما يعني فوضى اجتماعية، وهو بكل تأكيد من عوامل ضعف بل انهيار المجتمعات
وعلى أهميتها، فإن العدالة تُعتبر أحد أهم مباحث الفلسفات الوضعية، وكذلك –بطبيعة الحال– من أهم الأمور التي تكلمت فيها الشرائع التي أنزلها الله تعالى، وصولاً إلى الإسلام، الدين الخاتم، ربما بعد عقيدة التوحيد.
وبطبيعة الحال، فإن قضية العدالة، ومظهرها الأهم، وهو تطبيق القانون، تختلف بشكل كبير بين الفلسفة الإسلامية، وبين الفلسفات الغربية والإنسانية بشكل عام.
إلا أن هذا لا ينفي أن هناك مشتركات معينة بين ما وضعته الشريعة الإسلامية في هذا الصدد، وبين الفلسفات البشرية المختلفة، لأنه –كما قلنا– مصطلح مرتبط في كثير من جوانبه، بقضية الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة؛ حيث يرى الكثير من المفكرين المسلمين، أن الدين لم ينزل –في المجال المجتمعي والإنساني العام والخاص– بالجديد الشاذ غير المألوف، وإنما نزل؛ لتنظيم ما هو موجود بالفعل.
هناك مشتركات معينة بين ما وضعته الشريعة الإسلامية في موضوع العدالة، وبين الفلسفات البشرية المختلفة، لأنه مصطلح مرتبط في كثير من جوانبه، بقضية الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة
إلا أنه بطبيعة الحال، لا يمكن المقارنة بين ما وضعه الإسلام في هذا الصدد، وبين ما يضعه البشر، باعتبار أن حكمة الخالق عز وجل بالغة، ولا يمكن مقارنة فهم البشر للأمور بها.
وبشكل عام، فإن مفهوم "العدالة" لدى الفلاسفة والمفكرين الغربيين، منذ الحضارة اليونانية القديمة، وحتى الحضارتَيْن "الجرمانية" و"الأنجلوساكسونية" المعاصرتَيْن، مرتبط بقضية الفضيلة، وله سياقان:
السياق الأول- هو السياق الفردي الخاص، والآخر- هو السياق المجتمعي العام، وهو سياق مرتبط بشدة، بسلطة العدالة والقانون، أو القضاء كما نعرفه الآن.
وبينما كان أفلاطون شديد المثالية -باعتبار أنه من أوائل الفلاسفة الغربيين الذين تناولوا هذه القضية- ورأى أن العدالة فطرية؛ لأن الإنسان غير قادر على الظلم، فإن تلميذه أرسطو رأى العكس، ورأى أنه من الأهمية بمكان أن يكون للعدالة سياق مؤسسي عام يحفظها.
ومن بين أهم المفكرين الغربيين المعاصرين، الذين قدموا تصورًا أكثر شمولاً من غيره لمفهوم العدالة، هو الفيلسوف الأمريكي جون رولز.
عاش رولز في فترة تحولات كبرى في النظرية الليبرالية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، القائم على مفاهيم الرأسمالية والحرية الفردية، ولذلك طغت على أفكاره في هذا المجال قضية العدالة في المجال الاجتماعي والسياسي، في مواجهة توحُّش الليبرالية والرأسمالية الغربية، والتي أتت على الكثير من جوانب آدمية الإنسان، وحقوقه في المجال الاجتماعي، وبالذات الفقراء، والمهمشين، والفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
وانطلق رولز في أفكاره في هذا الصدد، من أفكار "جون هوبز" "وجان جاك روسو"، عن العقد الاجتماعي التي قال "روسو": إنها الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المنظمة والدول القومية التي كانت وقت ظهوره، لا تزال أوروبا حديثة العهد بها.
ولعل تركيزنا في هذا الصدد على أفكار "رولز" يأتي من الأصل الذي حاولت التعامل معه ومعالجته، وهو مشكلة غياب العدالة الاجتماعية في الكيانات السياسية المنظمة، والتي تُعتبر الدول شكلها الأرقى في الإطار المؤسسي والسياسي والمجتمعي.
فهذه المشكلات التي انبثقت بسبب حياد الإنسان عن صحيح الطريق الذي رسمته له الشرائع التي أنزلها الله تعالى، وكان آخرها وأكملها، هو شريعة الإسلام.
فالعدالة في الإسلام مفهوم شامل، ولم نجد في أية فلسفة وضعية ذات العمق الذي وضعه الإسلام للعدالة!
العدالة في الإسلام مفهوم شامل، ولم نجد في أية فلسفة وضعية ذات العمق الذي وضعه الإسلام للعدالة
فالإسلام أكد على قيمة العدالة وأهميتها، ولو على أنفسنا، ففي سُورة "النساء"، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}.
وفي مجال القضاء؛ حيث أقرب معاني العدالة للذهنية الإنسانية، يُعتبر قول الزور وشهادته من أكبر الكبائر، مع ما فيها من ظلم وإضاعة حقوق الناس، وهو ما يقود –كما تقدم– إلى انهيار العمران البشري بالكامل.
ولذلك هي في القرآن الكريم موضوعة عقب الشِّرْك ذاته مباشرةً، حيث يقول الله تعالى في سُورة "الحَج": {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)}.
وفي الحديث الشريف المتفق عليه، قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر –ثلاثًا–) قلنا: بلى يا رسول الله. قال : (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
أما في مجال العدالة الاجتماعية؛ فإن القرآن الكريم، وصحيح السُّنَّة النبوية، الكثير من المظاهر التي تدعم مفهوم العدالة في هذا الاتجاه، كنظام اقتصادي واجتماعي يهدف إلى إزالة الفوارق بين الطبقات.
ويستند نظام العدالة الاجتماعية في الإسلام في هذا الصدد، على أسس وأركان من أهمها أن الناس سواسية كأسنان المشط، كما قال الرسول الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
الأهمية الدعوية لنظرية العدالة في الإسلام:
في حقيقة الأمر، فإن الإسلام قد سبق مختلف النظريات التي وضعت عن العدالة في مختلف الاتجاهات، القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقدم نظرية متكاملة للعدالة، لا يمكن بحال أن نجدها في أية منظومة فكرية وفلسفية أخرى.
الإسلام قد سبق مختلف النظريات التي وضعت عن العدالة في مختلف الاتجاهات، القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقدم نظرية متكاملة للعدالة، لا يمكن بحال أن نجدها في أية منظومة فكرية وفلسفية أخرى
فمن الممكن أن نجد مفكرًا أو فيلسوفًا قد تناول هذا الجانب أو ذاك، من الجوانب المتصلة بالعدالة، كمفهوم بهذا الشمول، ولكن ليس كل الجوانب.
وبالتالي، فإن قضية العدالة، تُعتبر من أهم المجالات التي يمكن من خلالها ممارسة الدعوة إلى الله تعالى في أوساط غير المسلمين.
وتأتي هذه الأهمية من زاويتَيْن: الأولى- هو شمولية وأسبقية وعمق نظرية العدالة في الإسلام، وبالتالي التأكيد على مصدرها غير البشري، وأنها من لدن الله عز وجل، والثاني- أن فيها معالجات للكثير من المشكلات التي تعاني منها الإنسانية؛ بسبب قصور النظريات الوضعية، وما أدت إليه الفلسفات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية البشرية من مشكلات جمة للإنسان.