عندما نزلت آيات التوبة على الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، وكان أحدهم كعب بن مالك -رضي الله عنه-، حكى كعب عن تهنئة المسلمين له على التوبة، فقال: "قام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة" (رواه البخاري ومسلم).
تُرى كم من المواقف تمر بنا! وكم ثناءً نسمعه، أو دفاعًا نلقاه! ثم لا نلبث نشكر لهذا الإنسان صنيعه أو مديحه في أعماقنا، و"لا ننساها" له. ولكن ما الذي يجعل مساندة واحدة متفردة، ومديحًا بعينه له الأثر الأعمق؟ في الغالب يكون هذا تبعًا للموقف نفسه ومدى تفرده، ولمدى حاجة الإنسان إليه، والأثر الذي أحدثه.
ما الذي ميز موقف طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- عن غيره من الصحابة؟
ففي الموقف أعلاه، معلوم أن كعب بن مالك ورفقاءه الثلاثة -ممن خُلِّفوا- قد عانوا مقاطعة النبي ﷺ والمسلمين لهم على مدى أربعين يومًا وليلة. فلما تاب الله عليهم، وجاؤوا إلى المسجد النبوي، وجاء المسلمون يهنئونهم؛ أقبل صحابي واحد وهو طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وقام بتصرف لم يسبقه إليه أحد، ولا كرره شخص بعده. فكان أن كسب قلب كعب -رضوان الله عليه- لدرجة أن كعباً يحكي هذه التجربة لولده، دون أن يُغفل ذكر موقف طلحة -رضي الله عنه-.
أول أمر ميز تصرف طلحة -رضي الله عنه- هو أنه هرول إليه، أي: أسرع الخطى، وصافحه. أما الشأن الثاني: فهو أنه لم يقم له أحد آخر من كل المهاجرين إلا هو! وثالثًا: وهو عمق الأثر الذي تركه هذا العمل على قلب كعب -رضي الله عنه-، حيث كان في أّمَسِّ الحاجة لإحساسه بالانتماء والقرب من إخوانه من المسلمين، بعد أكثر من شهر من المقاطعة التامة.
وجه الاستفادة: لا تكتفِ بمجرد العطاء وكن متفردًا!
أن تعطي لفقير في يده بعض المال، فلا ريب أن هذا يسعده، ولكن أن تدعو له وتربت على كتفه أمر آخر! فهو بالإضافة لكونه أمراً مميزاً ومحبباً، فإنه لا يقوم به الكثير من الناس، وإنما يكتفون بإعطاء الصدقة، والمضي في طريقهم.
أن تعطي لفقير في يده بعض المال، فلا ريب أن هذا يسعده، ولكن أن تدعو له وتربت على كتفه أمر آخر!
كذلك أن يقوم المدرس بشرح المادة، والانصراف، فقد أدى رسالة جليلة، وواجبه الذي سيُسأل عنه. لكن أن يُنشئَ مع الطلبة علاقة أبوية أو أخوية، وينصحهم ويوجههم بما فيه النفع لهم ولأمتهم؛ لا ريب أنها إضافة أخرى متفردة.
المدح والكلام الطيب يصنعان موقف: "لا تُنسى"!
من يقرأ سيرة النبي ﷺ، يلاحظ حرصه الدائم على مدح الصحابة رضوان الله عليهم، ومناداته الكثير منهم بكنيتهم دلالة على المودة والقرب، حيث كنَّى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بـ"أبي حفص". وحرص على إظهار الحب لهم، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك) (أخرجه أبو داود وابن حبان). وفي بقية الحديث علَّم النبي ﷺ معاذ بن جبل -رضي الله عنه- دعاء ختام الصلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فلكم أن تتخيلوا أن لو قام كل والد ومعلم، بمدح الطالب أو الابن وإعلامه بحبه له قبل أن يعلمه أمرًا؛ لتعلم الطلبة والأبناء الكثير من الأمور التي لا توصلها أساليب التوجيه والتلقين.
كما حرص صلى الله عليه وسلم على تشجيعهم؛ ليعبروا عن مشاعرهم الطيبة تجاه بعضهم بعضا من الحب أو الإعجاب أو غيره. فقد حدث (أنَّ رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر به رجل، فقال يا رسول الله: إني لأحب هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعْلمته؟ قال: لا، قال: أعْلِمه. قال: فلحقه. فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له). (رواه أبو داود).
حرص صلى الله عليه وسلم على تشجيع أصحابه ليعبروا عن مشاعرهم الطيبة تجاه بعضهم بعضا من الحب أو الإعجاب أو غيره
ولا ننسى -في الختام- أن إسلامنا هو دين المعاملة وشهود الأثر، وأن الكلمة الطيبة تشمل المديح الطيب، والقول الحسن، والتعبير عن الإعجاب أو الحب أو الامتنان، وحتى شهادة الحق. فكما حدث مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين رأى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وهو مقبل، وقد كان ابن العاص -رضي الله عنه- معروفًا بحبه للإمارة، علاوة على أن مشيته وحديثه كلها تدل على أنه خُلِق للإمارة، فما كان من عمر -رضي الله عنه- إلا أن ابتسم لمشيته وقال: "ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا!".
فأكثر -يرحمك الله- من مواقف العطاء والمدح المتفردة، لعل الله أن يرسل لك يومًا من يروي موقفك النبيل معه، ويعلق في نهاية حكايته بقوله: "ووالله، لا أنساها لفلان!".