أيها المتسربلون بخطيئة الغدر، المتلفعون بثياب الظلم والقهر، الغارقون في بحار الخيانة والعمالة، الوالغون في دماء الأبرياء حتى الثمالة، المغرورون بإمهال الله لكم وحلمه عليكم، السادرون في غيِّكم وظلمكم، السائرون حثيثاً على خطى فرعون وهامان، واليمّ يوشك أن يُطبق فِرقيه ليغرقكم. الملعونون في أدعية أهالي ضحاياكم من الشهداء والمعتقلين، الساكنون دور الظالمين وبيوتهم دون أن تتعظوا بمصارع الأولين، أو تنتبهوا لما يخبئه لكم القاهر الجبَّار ذو القوَّة المتين.
يا من فوضتم القتلة المجرمين، وهلَّلتم لقنص المعتصمين أمام دار الحرس الجمهوري وهم ساجدين، ورقصتم على دماء الآلاف في رابعة والنهضة غير آبهين، ولم تهتزَّ لكم شعرةً على حرق المعتقلين في سيارات الترحيل، وجار القضاء وتفشى الفساد وضاع الأمن والأمان وسيطر الصهاينة على منابع النيل، ومازادكم ذلك إلا تزميراً للطغاة وتطبيل، وتبلَّدت أحاسيسكم تجاه اعتقال الحرائر والدعاة والصالحين وبقيتم تهلوسون بحمد المجرم القاتل على أنه بشرة خير، وقد أحال بلادكم يباباً بلقعاً تأنف الاقتراب منها حتى عوافي السباع والطير.
يا هؤلاء وهؤلاء مهلاً فقد كانت لكم فرصةً ذهبية ضيَّعتموها بجهلكم وغبائكم وغطرستكم ونقص عقولكم وأفهامكم.. وهذا دأب الطغاة المجرمين وأذنابهم من لدن قابيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. يشهد على ذلك ما فعلتموه بشيخ المجاهدين محمد مهدي عاكف رحمه الله.
كان يسعكم أن تتركوه يرقد في بيته بين أهله وأحبابه، فقد كبر سنُّه ودنا أجله ورقَّ جلده ووهن العظم منه واشتعل رأسه شيباً. كان محتَّماً أنه لن يمكث طويلاً فمعاول السنين قد تركت آثارها في حطام جسدٍ أرهقته معتقلات الفراعنة وسجونهم من قبلكم وأودت بزهرة شبابه فيها.
كان هيِّناً عليكم أن تضعوه قيد الإقامة الجبرية بعد أن دانت لكم مصر وطوَّعتموها بالحديد والنار، ودستم بحذائكم العسكري الثقيل الملطخ بالدماءعليها.
كانت لديكم فرصة فريدةً كي تسجلوا نقطةً بمرمى خصومكم بأن لديكم بقايا إنسانية، وأنكم تملكون بين جوانحكم قلوباً تحس وتنبض لا حجارةً صلدةً قاسية، ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
عمِيَت أبصارُكم، فما كفاكم وأروى سادِيَّتكم أن في قبضتكم الرئيس مرسي والمرشد محمد بديع ورئيس مجلس الشعب الكتاتني والكثير الكثير من قادة الإخوان ورموزهم، فأبيتم إلا أن تمارسوا همجيتكم ووحشيتكم على التسعيني المثقل بالعلل والأمراض.
أبيتم أن تتركوه يسلم روحه بهدوء يكسر القلوب ويحزنها، فخرجت عاصفةً مزمجرةً كبركانٍ يقذف الشظايا والحمم فوق رؤوسكم ليحرقها.
علم قاضيكم الجائر بحالته الصحية الحرجة فأشاح وأعرض واستجمع كل آثامه وشروره وضغائنه وحكم برفض الإفراج عنه لتلقي العلاج بضمانات احترازية مع علمه أنه غير قادر على تناول الطعام بشكل منفرد، أو تلقي العلاج وتغيير ملابسه بشكل منفرد.
أما قاضي السماء الملك العدل الحق المبين فقد قضى له بالإفراج رغماً عنهم، فارتقت روحه بلا أصفاد ولا أغلال ولا حراسات مشددة أوعساكر جباههم مكفهرة مقطبة.. فلا سجن بعد اليوم ولا محاكم ولا أحكام هزلية. إنه لحاق بالرفيق الأعلى، وراحة أبدية بعد مقارعةٍ للطواغيت دامت تسعين سنةً بأيامها ولياليها.
بغبائكم حاولتم منع أهله وأحبابه الصلاة عليه فما زاده ذلك إلا حضوراً في قلوب أهله وأصحابه بل والمؤمنين في مختلف أنحاء البسيطة، وتلك سجايا الشهداء الذين يزدادون حياة بعد رحيلهم، ويزداد التعاطف مع مظلوميتهم وتتسع لتشمل أناساً لم تكن لهم أي صلة بهم أو معرفة سابقة فامتلأت المساجد في أنحاء المعمورة بالمصلين عليه إخواناً وغير إخوان، مصريين وغير مصريين.
أردتم محاكاة فعل قتلة الإمام البنا في ظل الاستعمار الإنجليزي لمصر فبانت عورتكم أنكم بلاء جاثم على أرض الكنانة لا يقل عهدكم سوءاً عن عهود الاستعمار المظلمة، وما زاد الشهيد إلا ألقاً باقترانه بسيرة صاحبه وإمامه وقائده الذي أحسن البناء ثم مضى متوشِّحاً بوسام الشهادة.
ضاهيتم حكم الفاشيين المستعمرين فاستحضرتم من بطن التاريخ بفعلكم الدنيء ومخازيكم صفحات سوداء للاستعمار الإيطالي لليبيا، تقمصتم فيها شخصية موسوليني وغراتسياني، أما هو فما أخطأته العيون والقلوب حين رأت فيه الشهيد عمر المختار ينتصب شامخاً عزيزاً يتحدى جبروت الطغاة ويدوس كبرياءهم وغرورهم.
رحل الجسد المضنى بالآلام.. وبقيت روحه ترفرف في كل البيوت الطاهرة من الآثام، التي تتردد في جنباتها وصايا الإمام حين قال: "إنَّ الرجال سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة".
إنها الرجولة في أبهى صورها تجلَّت في سيرة رجلٍ واجه الظلم بثبات الجبال الرواسي، ولم يحن هامته لعبَّاد الكراسي، وأبقى بعده عطراً وطيباً، وشأناً يحتذى في كل ساح. وقد أحسن الأستاذ خالد مشعل حين رثاه قائلاً: "لو كنت مصرياً لجعلت من موت الشيخ محمد مهدي عاكف جذوةً للتغيير ونبراساً للقيادة وأملاً للشباب".