تتسارع الأحداث من حولنا في الآونة الأخيرة، لدرجة أنّ البعض وقف مدهوشاً، أو قل مصدوماً، وكأنه تلقى ضربة على رأسه أفقدته ذاكرته، وتمر بنا الحوادث وكأنّ يداً خفية تعمل على تحريكها وتوجيهها، بلاد بعروشها ورعاياها كأحجار رقعة شطرنج تعبث بها يد متمرس، وقد وضعت بلادنا بشبابها، وخيراتها، ومقدراتها، واحدة إثر الأخرى على هذه الرقعة! والبعض منها تعرض لهجمة لم يسلم منها الحجر ولا الشجر!
تطهير واسع النطاق، والحقيقة ليس تطهيراً، وإنما استئصال لكل ما يمت للأرض وللإنسانية من صلة! ووقف البعض يتساءل، لماذا كلما أوشكنا على إبصار النور عاد الظلام ليلفنا أقوى من ذي قبل! ظلام ممزوج بوشاح من الدم، خيم على جو البلاد، وبرها، وبحرها! والأمثلة حاضرة ماثلة أمام الجميع، فالخارطة العربية بحار الدم فيها تزحف على اليابسة، والسجون بالمرصاد، سد منيع يحول دون انتشار أشعة الشمس من اللحظات الأولى لإشراقها!
وفي خضم هذا كله، تجد فئة ترجف في المدينة، تزيد الأمر صعوبة وتعقيداً، وتعيدني هذه الظروف لأقف عند معجزة الإسلام الخالدة، وأنظر في آياتها الأزلية؛ لأقف متدبرة سورة من سورها العظام، التي لطالما غفل عنها البعض ومروا بها مرور الكرام؛ سورة يوسف _عليه السلام_ والتي تفطر قصتها قلبك ألماً ووجعاً وغرابة!
فمنذ طفولته يتكالب الإخوة عليه؛ ليصبحوا ألد الأعداء حقداً وكراهية، ويُبعد عن السند والكنف ليُلقى في الجب وحيداً، ويُتهم الذئب بدمه زوراً وبهتاناً! وينتقل من ظلمات الجب ويُزج به إلى ضيق السجن وظلمته لا لجناية ارتكبها، وإنما ضريبة الطهر والعفاف! ودعاة العهر وطلاب الشهوة والبغاء يتقلبون في النعيم! وتجده -رغم ما به من مصاب- صابراً محتسباً مختاراً السجن على أن يتلوث برذائلهم ورجسهم.
نعم، كل هذه المعاني والأحداث في سورة يوسف، وإذا أمعنت وأجلْتَ النظر في بلادنا وأحوالنا أيقنت أنّ التاريخ يعيد نفسه، والأحداث هي نفسها تتكرر، وإن اختلف الزمان والمكان والأشخاص، فتجد إخوة لنا من أبناء جلدتنا يناصبوننا العداء، جزء من بلادنا نزعت من أحضاننا لتُلقى في جب الذل والقهر، فكم من يوسف بيننا اتُهم الذئب بدمائهم وأجسادهم، وهو من كل ذلك براء، فاتخذ اللئام من أجسادهم هدفاً يتدربون عليه فن الرماية، ولعبة يذيقونها الموت بأشكال وألوان، تارة يقصفون بالطائرات، وأخرى بالحرق، وأخرى بالتغييب في ظلمات السجن أعماراً وأعمار، فالطرق كثيرة والجاني فيها واحد، والشرفاء الأتقياء الأطهار إذا كُتبت لهم الحياة وجدت السجن لهم -حلاً وترحالاً- العنوان لهم والمقام، والسجان فيها منذ يوسف _عليه السلام_ ليومنا هذا هو واحد لا رقابة عليه من خُلق، ولا رادع له من سلطان، فالسلطان فتح له الأرض طولاً وعرضاً، هو الآمر والناهي، هو القاضي والجلاد!
كم من يوسف بيننا اتُهم الذئب بدمائهم وأجسادهم، وهو من كل ذلك براء، فاتخذ اللئام من أجسادهم هدفاً يتدربون عليه فن الرماية، ولعبة يذيقونها الموت بأشكال وألوان
والبعض منا نسي في خضم هذه الظروف والابتلاءات النتيجة التي عليها المدار وتنصب لها الأنظار، فالأحداث المتشابهة بمحاورها وأساسياتها تسفر عن نتيجة واحدة، وينسدل الستار عن مشهد واحد لا غير، وهي عودة المظلوم عزيزاً حافظاً وأميناً على خزائن الأرض، فكلما تصاعدت الأحداث، واشتدت الأزمات، وازدادت حلكة الظلام، نم اليقين وترعرع بأنّ الطهر سيُمكن، وأنّ ظلام السجن سيُبدد بنور يسطُع ويشرق من هناك من غيابات الجب والسجن والظلم والبهتان.
ومهما تلونت حياتنا بصنوف المحن والشدائد، وكثرت بها المنعطفات والعثرات، فالنار التي تكوينا، هي نفسها التي تنقينا من الشوائب والأقذار، فتُمايز بين الذهب الخالص وذاك المزيف المغشوش، بل إنها الحد الفاصل بين العذب الزلال من الماء وبين السراب، ويقين لا يفارقنا، أنّ هذه الأجساد مطية لخوض غمار الحياة، وأنّ هذه الأرواح ما هي إلا عارية يستردها مالكها وقتما شاء، لا فرق بين خادم وسيد، وأنّ أحداث الحياة، معالمها على الانتهاء وشيكة، لكنّ نهايتها بداية المشوار، وموسم لحصاد ما زرعناه في هذه الفانية، والمحكمة العليا تُنصب، والحاكم فيها والقاضي العادل هو الذي لا تخفى عليه خافية، ويقضي حكما نهائيا لا طعن فيه ولا استئناف!
النار التي تكوينا، هي نفسها التي تنقينا من الشوائب والأقذار، فتُمايز بين الذهب الخالص وذاك المزيف المغشوش، بل إنها الحد الفاصل بين العذب الزلال من الماء وبين السراب
وقتها فقط ندرك أنّ ظلم يوسف لم يذهب هباء وانتصار إخوته الذي طالما أفجعنا وآلمنا، إن هو إلا انتصار زائف، سرعان ما يذهب أدراج الرياح، وإن النصر الحقيقي، إنما هو ذلك النصر الذي نسعى به بين صخرتي الصبر والثبات أشواطا وأشواطا، وفي كل خطوة نخطوها في هذا السعي كان علينا لزاما أن نتذكر يوسف الصديق وقتما خرج من السجن عزيزا، أو نستحضر قصة أصحاب الأخدود الذين دفنوا أحياء في النار، ولم يجدوا من يشيعهم لمثواهم تشييعاً يليق بتضحياتهم، فالقصتين مع اختلاف الزمان ولمكان، يوضحان لنا معالم الطريق الصحيحة الحقة التي يُرسي أسسها ونتائجها العادل المنتقم الجبار! لا تلك المعالم التي يرسمها البشر وفق أمزجتهم وأهوائهم، ونتائجهم فيها إلى زوال، {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [سورة الحشر آية2].