لا يجادل عاقل في أن هناك اختلافا بين منطق الدعوة ومنطق السياسة، بين المجال الذي تشتغل فيه الأولى والمجال الذي تشتغل فيه الثانية، واختلافا بين خطابهما ووسائل اشتغالهما. ولكن هل صحيح أن هذا الاختلاف هو اختلاف جوهري إلى حد التناقض؟ وأن منطق التدرج يصلح في الدعوة ويتناقض مع السياسة؟؟ و أن الأصل في الدعوة حسن الظن وافتراض حسن النية والتماس الأعذار؟؟ في حين أن الأصل في السياسة على العكس سوء الظن وافتراض سوء النية؟ وأن مبدأ التدرج أن يصلح في الدعوة فهو لا يصلح في السياسة!! وأن مرور الزمن في عالم السياسة جزء من استفحال المشكلات وتفاقمها، وإنه لا بد فيها من اقتحام المشاكل وحلها بقرارات جريئة وسريعة، وإلا أطبقت عليك من كل جانب، واستغلها خصومك للإيقاع بك!!
وهل صحيح أن الأصل في الدعوة هو التعامل من منطلق حسن الظن بالناس، وأنه إذا كان الوعظ والإرشاد هو وسيلة التعامل مع الناس، ففي السياسة لا مجال للوعظ والإرشاد، وإنما استخدام القوة المشروعة لتطبيق نصوص الدساتير والقوانين وأحكام وقرارات القضاء هو الأولى!! لأنك مطالب بتحقيق نتائج وفقاً لبرنامجك السياسي الذي أعلنته، وانتخبك المواطنون لتحقيق حياة أفضل لهم. وإنك على العموم إذا طبقت القواعد الدعوية على العمل السياسي تفشل السياسة وتضيع الدعوة؟؟
و إنك إذا جمعت بينهما فقد جمعت بين أساليب ووسائل متناقضة، فيبدو أداؤك أمام الناس محلاً للاستغراب والدهشة، وإنه تبعا لذلك فمن "الصعب، بل من المستحيل!!!، أن ينجح في ممارسة العمل السياسي مَن تكونت ملكاته وقدراته على أساسٍ دعويٍّ صرف، وعاش أغلب عمره داعيةً "، وإنه تبعا لذلك فلا بدّ من التخصّص، أو الفصل الوظيفي، بين وظيفة الداعية ووظيفة السياسي، وذلك في إطار المرجعية الإسلامية الشاملة لكليهما’’.؟؟
مقدمات غير مسلم بها
هي مقدمات استنتجها السيد توفيق بوعشرين من حوار مع مفكر وسياسي مصري حول تجربة " الإخوان المسلمين " وما آلت إليه من " إخفاق "، وبنا عليه عددا من النتائج التي لا تصمد أمام التمحيص، وخلص انطلاقا منها إلى أن ذلك التوصيف ينطبق على حزب العدالة والتنمية الذي ينبغي في تعامله السياسي أن يتخلص من منطق الدعوة ويحتكم إلى منطق السياسة!!.
وحيث إن بعضا مما ذكره الأستاذ توفيق بوعشرين لا يخلو من وجاهة، حيث إن مجال العمل الدعوي و أهدافه وأسلوبه يختلفان عن مجال وأسلوب و أهداف العمل السياسي، وإنه رغم وجاهة هذا البعض، فان توصيفه ذاك لا يحيط بحقيقة كل من الدعوة والسياسة والتقاطعات المنهجية بينهما.
وحيث إنه ينطلق من مصادر ضمنية غير مسلمة، مفادها افتراض إمكانية حيازة حزب معين للأغلبية المطلقة التي تسمح له في منطق السياسة المخالف لمنطق الدعوة، أن يفرض بـ' القوة المشروعة " برنامجه السياسي، وهو ما لا يمكن التسليم بها، مما يتعين معه فحص أطروحة التناقض الجوهري المفترض بين منهج الإصلاح الاجتماعي والديني والثقافي ومنهج الإصلاح السياسي.
التوافق سمة الانتقال الديمقراطي وهو ما يستبطن إعمال منطق التدرج
من المعلوم أننا اليوم نعيش اليوم في سياق سعي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، وهو السياق الذي يفرض القيام بأكبر قدر من التوافقات والمساومات التاريخية، وبناء عليه إذا كان من الصحيح في الدول التي استقر فيها الاختيار الديمقراطي ثقافة وممارسة، أن الحزب المتصدر له و بإمكانه أن يستخدم القوة المشروعة أي نصوص الدستور والقانون والقضاء لتطبيق اختياراته وبرامجه، فمن الصحيح أيضا في ظل دول لم يتحقق فيها الانتقال الديمقراطي بطريقة لأسباب متعددة، أن التوافق الوطني هو المنهج الأولى والأسلم حقا. أن مشكلة الإخوان المسلمين في مصر، والتي استدعاها صاحب المقال - لم تكن بسبب استخدام منطق الدعوة في مجال السياسة واستدعاء منطق التدرج في المجال السياسي، بل إنها على العكس من ذلك في نظري، حيث إنها وقعت بالضبط فيما يدعو إليه السيد بوعشرين، أي أنها ظنت أنها بإمكانها استخدام القوة المشروعة النتائج الشرعية الدستورية والانتخابية لوحدهما من جاهل فرض برنامجها السياسي!! واختصار فإنها وقعت في استهواء استخدام " القوة المشروعة " وقفزت حول الممكن التاريخي في إطار عدم توازن في ميزان القوى بين الأطراف السياسية المتنافسة!!
وبناء عليه: فانه إذا كان من المعقول التمييز بين الدعوي والسياسي من حيث الأهداف ومجال العمل وأدواته وخطابه، فإنه من التعسف السعي إلى اصطناع فرق جوهري بينهما من حيث المنهج، حيث تبقى القواعد والأصول الكلية للإصلاح أصول مشتركة صالحة في كل مجالات الإصلاح بل هي مشتركة بين بني البشر وشاملة لكل أنواع الإصلاح، من حيث هي قواعد حاكمة للعمران البشري.
وفِي هذا الصدد يتعين تسجيل الملاحظات التالية:
1- أن هناك قواسم منهجية تحكمهم العمل الدعوي والعمل السياسي، وقواعد مشتركة تحكم الاجتماع البشري عموما وتحكم الإصلاح أكان إصلاحا دينيا أداته ووسيلته هي الدعوة أو الخطاب الدعوي أو كان إصلاحا اجتماعيا اقتصاديا أو كان إصلاحا سياسيا؟؟ ومن التعسف إقامة التقابل الحدي الذي ذهب إليه السيد توفيق بوعشرين بين الدعوة والسياسة.
ومن هذه القواسم المنهجية في الإصلاح ما نسميه نحن بـ" التدرج" وما يسميه الماركسيون بـ" التراكم"، و أن التغيير والإصلاح للمجتمعات لا يتم من خلال القطائع وإنه لا يوحد تطور المجتمعات يسير وفق تطور لولبي، وإنه لم تحث خلال التاريخ كله ثورة خالصة قطعت مع الماضي، وأن كل ثورة تستدعي ثورة مضادة وكل إصلاح يستدعي نقيضه إلى أن تقوم الساعة.!!
2- ليس صحيحا أو مسلما بإطلاق أن الأصل في السياسة هو سوء الظن وسوء النية في فرقاء العمل السياسي، وليس صحيحا أن الأصل دائماً في الدعوة هو حسن الظن.
وهذا واضح في القرآن الكريم إذ أن القرآن المكي باعتباره قد ركز على الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك لم يتعامل مع قريش دوما من منطق حسن الظن!! فإذا كان الأصل في الدعوة هو الرفق والكلمة الحسنة فإن ذلك لم يمنع القرآن من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلظة على الكفار والمنافقين الذين أذوه واعتدوا على أصحابه، بل انه كان يسفه أحلام المشركين وينتقد عقائدهم ويعلن المفاصلة والبراءة من قبيل أمره بان يقول لهم "لا اعبد ما تعبدون" "إني برآء مما تعبدون".
والقرآن حكم حكما نهائيا على أبي لهب وامرأته حمالة الحطب بأنها "ستصلى نارا ذات لهب"، ولم يلتمس للمشركين عذرا فيما كانوا عليه من ضلال و جاهلية.
3- وليس صحيحا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح يرأس " دولة " أو لنقل صار له سلطان "سياسي " قد تخلى عن منطق الدعوة القائم على حسن الظن، أو أنه قد تخلى عن أخلاق الداعية وتعامل بمكر السياسيين، بل العكس من ذلك، ففي أول فرصة أتيح له القيام فيها بـ " مقايضة سياسية " كما حدث في صلح الحديبية، أجاب عمر حين قال له لم لم تشر علينا بالإجهاز على أحد المشركين الذي جاء ليرد سهيل بن عمرو فارا من قريش وكان من مقتضيات الاتفاق أن من جاء من مكة إلى المدينة فإنه يرد لمكة، وإنه من جاء من المدينة فارا من محمد إلى مكة فانه لا يرد، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
بل إنه وهو الذي أصبحت له قوة سياسية وعسكرية قد بقي أفق تفكيره منصبا على التمكين لدين الإسلام وقيمه في النفوس أكثر مما كان معنيا بتحقيق سلطان سياسي أي انه بقي وفيا لمنطق الدعوة وهو الذي صار صاحب سلطان وقوة، ولهذا عقد " صلح الحديبية ' الذي رأى فيه بعض الصحابة تنازلا كبيرا من المسلمين حتى إن عمر بن الخطاب استنكر قائلا بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: بلى. ثم سأله: أليسوا على الباطل فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلة قائلا: بلى، فيقول عمر: فلم نعطي الدنية من ديننا؟؟.
وكان صلح الحديبية فتحا ونزلت سورة الفتح تبشر بالفتح القريب لمكة، وكان من مقدمات الفتح أن دخل خلال سنة من تفعيل الصلح المذكور أضعاف ما دخل في الإسلام خلال السنوات الثمان للهجرة كما يقول رواة السيرة!! ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يبقى الأوضاع السياسية عل ما هي عليه فيبقى الملوك الذين لم يقاوما الدعوة على عروشهم وزعماء القبائل في قيادتهم.
وكي لا نقتصر على تاريخ الدعوة الإسلامية في المرحلة النبوية فإن التأمل في التاريخ السياسي للدول الإسلامية يدل أن نشأتها وتطورها يكشفان عن أنها كيانات سياسية تأسست على أساس دعوة دينية، بحيث من الصعب جدا أن نتحدث عن هذه القطيعة بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة، إذ تتداخل المرحلتان وتستمر الدولة في القيام بوظائف دعوية حتى أن فقهاء "السياسية الشرعية " اعتبروا أن من وظائف الدولة حراسة الدين والدنيا.
4- وليس صحيحا أن منطق التدرج هو منطق خاص بالدعوة وهي فيما يتعلق بالسيرة النبوية شملت بالخصوص المرحلة المكية. فقد ظل منطق التدرج هو المنطق الذي يحكم الجانب التشريعي حيث تدرج القرآن في فرض عدد من الأحكام على الرغم من المرحلة كانت مرحلة تمكين سياسي وامتلاك " الدعوة " لسلطة ودولة، وواصلت الدولة التعامل بمنطق " المساومات " و"التوافقات" كما حدث في العلاقة مع يهود المدينة كما تجلى ذلك في " وثيقة " المدينة. وحتى بعد الفتح أي بعد تحول الدعوة إلى " دولة " فقد بقي منطق التدرج قائما وهو ما يشهد به قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " لولا إن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم " حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ما يراه أولى، وكان يملك أن يفعل ذلك لما بسط سلطانه السياسي على مكة وهي قلب الجزيرة العربية ومركز الثقل السياسي والعسكري فيها.
5- وحيث إن السيد توفيق بوعشرين قد ذهب إلى استنتاج لا يصمد أمام الفحص والتدقيق حين خلص إلى أنه لن ينجح في ممارسة العمل السياسي مَن تكونت ملكاته وقدراته على أساسٍ دعويٍّ صرف!! ( إذا جاز التسليم بإمكان هذه الفرضية في حالة مناضلي الحزب المنحدرين من الحركة )، وعاش أغلب عمره داعيةً " وإنه تبعا لذلك فلا بدّ من التخصّص، أو الفصل الوظيفي، بين وظيفة الداعية ووظيفة السياسي، وذلك في إطار المرجعية الإسلامية الشاملة لكليهما’’ وهو يشير إلى تجربة العدالة والتنمية فإنه من المناسب أن نتساءل:
- إذا كان الأمر كذلك فلماذا نجحت تجربة العدالة والتنمية مما لا ينكره إلا جاحد، وتمكن من تصدر المشهد الانتخابي بعد ما لا يزيد عن عقدين من ولوج العمل السياسي، والواقع أن جل قياديّيها قد تكونت ملكاتهم على أساس دعوي صرف وعاشوا أغلب أعمارهم دعاة؟؟ هذا إذا سلمنا أن هؤلاء كانوا منقطعين عن عالم السياسية ولا يستبطنون منطقها حتى قبل أن يدخلوا غمار التجربة الحزبية؟ بل لربما جاز القول أن مناضلي الحركة كانوا وما زالوا مسيسين زيادة على اللزوم!!
- والى أي نتيجة آلت تجربة الحركة والحزب غير الفصل الوظيفي أو تجربة التخصص؟؟ اللهم إذا كان بوعشرين يفترض أنه ينبغي على مناضلي الحزب أن يتخلّوا عن ثقافتهم المنهجية التي مكنتهم من نحث موقع لهم داخل المشهد السياسي ما فتيء محل إعجاب وتنويه من قبل تجارب حركيّة وحزبية في العالم الاسلامي.
6- أيهما أقرب لمنطق التوافق والمساومة ؛ الدعوة أم الدولة والسياسة؟؟؟
من المعلوم من تاريخ الدعوات وسيرة الدول أن العلماء والمفكرين المسلمين بل أن مفكري العالم ومثقفوه من كل ألوان الطيف يلتقون على بديهية، وهو أنه كلما كنّا في مجال الفكر والعلم والدعوة والثقافة- عكس ما ذهب إليه السيد بوعشرين- كلما كنّا أقرب لترجيح كفة القيم والمبادئ والإلحاح عليها، فمجال الدعوة والفكر والثقافة هو مجال التأكيد على القيم والمبادئ الثابتة والتركيز على ما ينبغي أن يكون، أو بلغة فلاسفة السياسة مجال " الطوبى " و،" الحلم "، وانه كلما كنّا في مجال السياسة فنحن في مجال التدبير المحكوم بالممكن حتى إن بعضهم قد عرف السياسة بأنها " فن الممكن " وعرفوا السياسة الشرعية بأنها فن " جلب المصالح وتكثيرها " و" درء المفاسد وتقليلها "
7- التدرج في الفكر السياسي المعاصر
ولست في حاجة إلى آن أستفيض في الاستشهاد بالطابع العملي التاكتيكي للتفكير السياسي المعاصر حتى عند الحركات السياسية التي تنطلق من مرجعيات عقدية ومذهبية جذرية!! ولست في حاجة لتذكير السيد بوعشرين بالأدبيات التي تستند عليها أكثر الحركات الراديكالية اليسارية وهي تتبنى في نهاية المطاف نهج الواقعية السياسية التي قد تفرض على حركة يسارية جذرية مثلا كما تقول تلك الأدبيات التحالف مع قوى تتناقض معها في المرجعية الفكرية او في الانتماء الطبقي. لقد دافع كارل ماركس في حديثه عن ثورة 1848 في فرنسا مثلا عن تحالف العمّال والمزارعين والبورجوازيّة الصغرى تحت قيادة البروليتاريا وأكّد أنّ العمّال ليس بمقدورهم تحقيق أيّة خطوة إلى الأمام دون هذا التحالف على الرغم من التناقض الطبقي الموجود بين العمال وتلك الفئات حسب نظرية المادية التاريخية!!
وبلور لينين أيضا مسألة التكتيك الثوريّ بحيث أصبحت قضايا التكتيك والإستراتيجية جزءا من علم قيادة نضال البروليتاريا الثوريّ معتبرا التحالفات الظرفية التّي تُعقَد حتّى مع العناصر غير الثورية ضروريّة لوجود أيّ حزب، وأكد ماوتسي تونغ أيضا على ضرورة وجود حزب ثوري يقود جيش العمال و الفلاحين في إطار جبهة تضم كل الطبقات الشعبية.! وعمل هذا الأخير على بناء "الجبهة المناهضة للتدخل الامبريالي الياباني في الصين"، فبين سنتي 1931- 1941 وبمبادرة الحزب الشيوعي الصيني تشكلت جبهة وطنية تضم في صفوفها بشكل رئيسي حزب الكيومينتانغ الذي أباد حوالي أربعة أخماس الحزب الشيوعي وأجبر الحزب على العمل السرّي فى المدن خلال الحملة الشمالية، يقول ماو ” إن تطور التناقض بين الصين واليابان قد جعل التناقضات المحلية، بين الطبقات و بين الجماعات السياسية تنحدر من ناحية الأهمية السياسية، إلى مركز ثانوي و تابع".
وهو ما يؤكد أن المرونة السياسية والتدرج في تحقيق الأهداف السياسية منهج يقول به العقلاء باختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الإيديولوجية،وهو من البداهات العقلية التي ليست حكرا على الفكر الدعوي بل هي مسلمة يعمل بها العقل الإنساني في جميع المجالات بما غي ذلك مجال العمل السياسي، والقول بعكس ذلك لا ثبت كما بينا ذلك!!
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- حزب العدالة والتنمية المغربي