(1) الصفح الجميل
أجمل الصفح عندي، ليس الذي يكون بلا عتاب، كقاعدة مطلقة. بل في كثير من الأحيان لا يجمل الصفح -حقيقة ولا يصفو فعلًا، ولا يتم تمامًا- إلا بالتعاتب . التعاتب الذي هو في جوهره -لمن فقه- مكاشفة بخبايا النفوس؛ لجلاء ما في الصدور، وحرصٌ على الإفهام؛ لتحقيق التفاهم. هذا النوع من التعاتب يختلف تمامًا عن مجالس الإدانة وإنزال الأحكام القضائية بقطعية تمنع حق كل الأطراف في البيان والتعليل. وإن رسالة التعاتب الممهد للصفح الجميل خلاصتها –مهما طالت-: "إنك عزيز عليَّ، لذلك أريد أن أفهمك، ويهمني أن تفهم عني؛ ليمكننا أن نستمر في وصال لا يكون جحيمًا إن لم يكن نعيمًا".
وهذا النوع إن تمَّ على ما ينبغي تغدو العلاقة بعده دائمًا أرقى وأنضج؛ لأن المكاشفة الصادقة في حوار جاد بين قلبين متألمين، خير ألف مرة من ادّعاء صفاء وتمرير، تتراكم من ورائه الطوايا، حتى تنفجر في تقارع لاذع مُوجِع بين وحشين جريحين صارا متباغضين: الأول- يجلو النفس، ويطهر القلب مهما كان مؤلماً، والثاني- يخلف ندوباً، ويرسّب ضغائن لا تندمل، وإن سكن أنينها بين الحين والحين.
وإن أعظم مآسي القلب أن يُداس من عزيز لا يدري أنه يدوسه، أو يتغافل حتى يهلكه ويهلك عنده. وأردأ الجود بالوِجدان ما كان بعد نضوب وَجْدِه أو تراكبه: أسف متأخر، واعتذار متأخر، ومواجهة متأخرة. وإذا كان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في شرع الدين، فهو لا يجزئ في شرع القلوب!
لذلك لا تدخر مكنونك، واحرص على استبانة مكنون الآخرين في العلاقات التي تهمك، أفصِح واستفهم، اتّفق وتوافق، افهم وتفهّم، ولا تكتم أو تخمّن، واشف صدرك وصدورهم أولا بأول، تأمن عواصف القلوب، ولا يترتب بالضرورة على هذا التكاشف تغير الأطراف المعنية؛ لإرضاء بعضها، بل في كثير من الأحيان غاية المطلوب أن تصل رسائل القلوب، وأن نعي ما يجري بسببنا أو بسبب منا في نفوس من تتصل بهم نفوسنا، ثم نتراضى على سواء.
لا تدخر مكنونك واحرص على استبانة مكنون الآخرين في العلاقات التي تهمك.. اشف صدرك وصدورهم أولاً بأول تأمن عواصف القلوب
و إن آية الصفح الجميل بعد تعاتب ناضج ومتكافئ الحقوق، ألا يعقبه دوام تبكيت ونغز بما سلف كل حين .
وإن أصدق الصفح الجميل ألا تتكلم لتصمت في منتصف الطريق، وألا تصمت لتتكلم في آخر المطاف. هذان موضعان لإصابة أي قلب قريب في مقتل!
فإن كنت متكلماً فتكلم حتى النهاية، وإن كنت صامتاً فاصمت حتى النهاية. وتهلك بين نصف صمت ونصف كلمة ألفُ مهجة، ألفَ مرةٍ.
(2) الهجر الجميل.
الهجر الجميل: هجر بلا أذى للهاجر والمهجور، بلا أذى قبل، بأن تكون بلغت غاية جهدك في الحفاظ على وصال يعنيك، وأنهك قلبك بحيث لم يعد فيه مزيد يسع نفس الآخر إلا بالخروج عن نفسك.
وبلا أذى بعده بألا تهتِك ستر من هجرت، ولو كنت في سياق تظلّم أو شكوى، فلا تَفْجُر في تظلّمك فتنقلب ظالمًا، ولا تتوسع في شكايتك بكل تفصيلة لا تمت لجزئية الشكاية بصلة حقيقية، إلا أن تشفي في نفسك تعطشًا للثأر وانتصاراً للذات، ولو من طيف ذكرى! وشيطنة من هجرت لن تجعلك ملاكًا على كل حال، أو في كل أطوارك.
ولا تشتط في اجترار وقع آلامك فتنسى أنك لا بد آلمت كذلك، بغض النظر عمّن كان قاصدًا للإيلام ومن فرط منه، وعمّن اجتهد أن يصلح ومن لم يأبه. فإن أي وصال يقوم على اثنين فأكثر، يشارك فيه كل طرف بتَبِعة، وإن اختلف قدر التبعة وحجم الأثر ووقعه.
وأعون معين على الهجر بلا أذى أن تستحضر تفريطك في جنب الله الذي لا بد منك واقع، فتَهَب التفريط الذي وقع في حقك لله، عسى الله يصفح عنك، ويعفيك من تبعة تفريطك.
أعون معين على الهجر بلا أذى أن تستحضر تفريطك في جنب الله الذي لا بد منك واقع، فتَهَب التفريط الذي وقع في حقك لله
وآية الهجر الجميل، إيذان على سَوَاء بالعزم على الانسحاب. لا تبتُر بلا تعليل، ولا تحتجب أو تحجب الآخر في طفولية تظل تتذبذب بين الوصل والقطع. وإن أردأ الوِصال والهجر ما قام على تلميحات مُضمرة ثم تلويحات باهتة ، فتلميح بالقرب ثم تلويح بالبعد، فلا القرب مفهوم ولا البعد معلول.
وصدق جماله ألا يمنعك من أن تبسط يد المعروف أو الإحسان لمن هجرت. فالهجر ليس بالضرورة قطيعة أو فصماً، بقدر ما هو إعادة ترتيب لدوائر القرب والبعد. فكن على بيّنة من نفسك أولًا فيما يمكنها أن تقدّم وما تستطيع أن تحتمل، وإذا عزمت على على وصل فَصِل، أو على هجر فاهجُر، أو على بيْن بيْن فصرّح أنك بيْن بيْن. وفي كل حال اتقِ الله ولا تُنهِك.
(3) الصبر الجميل.
و الصبر الجميل ليس ألا تشكو، ثم تمنّ على من حولك بأنك لا تشكو ! وليس أن تترفع عن التصريح بحاجتك لعون، ثم تتسوّل عناية الناس وشفقتهم بالتلميح الأعرج أو الغضب الأعور! بل ببساطة البيان عن حاجتك لمساحة خاصة من صبرهم على تعكّر نَفْسِك، وكرم حِلمهم على ضيق نَفَسِك. ثم حَمل عبء قلبك بعيدًا عنهم؛ لتنثر مكنونه بين يدي من يملك تقلّبه ومن هو بحاله أعلم، بل هو الذي قلّبه؛ ليذكّرك إن كنت ناسيًا، وينبهك إن كنت غافلًا، ويزيدك إن كنت ذاكرًا، ويقربك إن كنت نجيّاً.
وأرفع الصبر أن تصون همّ قلبك وتكرمه، بألا تبعثره بين خلق لا يملكون لك من الأمر شيئًا، وليسوا بأغنى منك حاجة، ولا تتخذه معبرًا لحظوظ النفس الخفيّة من لفت الانتباه واستجلاب الاهتمام الجماهيري، ببثه في كل تدوينة وكل تحديثة لكل سامع وراءٍ.
أرفع الصبر أن تصون همّ قلبك وتكرمه بألا تبعثره بين خلق لا يملكون لك من الأمر شيئًا وليسوا بأغنى منك حاجة
وأكرم الصبر أن تكفي غيرك مؤنة نفسك، فلا تثقل بهمومك كواهل من حولك في غير عون يستطيعونه، فتزيدهم غمًا ولا ينقص غمّك. وإن كنت لا بد مشاركًا فمن باب استشارة أو استنصاح تعبدًا لله بسبب من الأسباب، لا اعتمادًا على أن أحدًا بيده مفتاح حل لك، فمن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
وآية الصبر الحقّ أنك تستجلبه من عند الله رأسًا، وما صبرك إلا بالله.
أربع على نفسك، وليسعك قلبك، ولربك فاصبر.