تحدثنا في مقالين متتالين عن خطورة التخدير الفكري للشعوب، وكيفية مواجهته، وإبطال مفعوله، بخطوات عملية علمية واقعية صحيحة.
واليوم نتحدث عن نفس الداء، لكن من زواية أخرى، لكنها خطيرة في أحداث الأزمة والمواقف والسياسية بشكل عام، نتحدث عن "التخدير الفكري" داخل الحركات والكيانات الإسلامية على وجه الخصوص؛ لما لها من أثر كبير في تكوين عقلية ناجحة عبر ثقافة الوضوح، أو العكس عبر استخدام خطاب التخدير وتغييب الوعي بشكل كبير.
والسؤال الآن: لماذا تلجأ بعض الحركات لتغييب وعي أبنائها وتخديرهم فكرياً؟ وقبل الجواب أميل إلى أن المدخل لهذا اللجوء هو في الأصل تكوين هالاتٍ على بعض القيادات، سواء في الماضي أو الحاضر، والإفراط في الحديث عنهم، وتقديمهم للشباب كنجوم وتاريخ مضيء.
وهنا أؤكد أن هذا ليس طعناً، لكن من الخطأ أن يتمّ توظيف بعض أراءِ الكبار في الماضي؛ لإشهار سيوف دافعة للصمت والسمع والطاعة في الحاضر! لذلك فالسبب الأول للجوء الحركات والكيانات لتغييب وعي أبنائها وتخديرهم فكرياً هو"الحصول على الولاء الكامل" من المريدين والأنصار، وهذا الأمر قمة في الخطورة؛ لأنه يُشَرْعِنُ الأمور، ويُلبسها لباس القُدسية رغم فشله، فلا يستطيع الشباب أن ينتقد؛ بدعوى أنه لديه ولاء لهذه القيادات، حتى لو فكر في النقد سيكون الرد: "أنت لم تقدم مثلما قدموا لفكرتهم! وليس لديك إدراك كامل لما يحدث!" وهذا قمة التخدير والتغييب.
من الخطأ أن يتمّ توظيف بعض أراءِ الكبار في الماضي؛ لإشهار سيوف دافعة للصمت والسمع والطاعة في الحاضر
ثانياً- عدم المحاسبة:
إن الإكثار من مواد تغييب الوعي عبر سنوات مضت -مع الأسف- أثّر بشكل كبير في محاسبة كل من تصدّرَ مهمةً في أيِّ كيان، ودون النظر للانتماء الأيدلوجي؛ لأن المناهج والنشرات والرسائل لم تعمق فكراً، أو تُطوِّر عقلاً، بل كانت منغلقة وبمحصلة واحدة {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، والواقع أكد هذا، فأصبحت الكثير من الحركات طاردةً للأفكار، وفقيرةً من المفكرين.
ثالثاً- ضعف القائد:
فالتاريخ يؤكد أن القيادة القوية تتمتع بقدر عالٍ جداً من الشفافية والوضوح، وطلب المحاسبة مع أيِّ تقصير أو حتى مجرد الظن، والحركات والكيانات جزء من الإطار القيادي العام، لذلك نجد الكثير من القيادات ضعفاء، وليسوا على قدر المسؤولية، بل يظل سنواتٍ دون تحقيق نجاح، ومع ذلك يرفض حتى مجرد الاعتذار؛ ليفسح المجال لغيره! والمعضلة هنا أنه ضعيف لكن يظن أنه الحامي للفكرة من الاندثار، وأن اعتذاره أو انسحابه خطر، بل يلبسه ثوب القدسية والشرع، وبعدها –طبعاً- لايجد أصواتاً تعارضه، فقد شَهَرَ في وجوههم سيفاً مقدّساً.
التاريخ يؤكد أن القيادة القوية تتمتع بقدر عالٍ جداً من الشفافية والوضوح، وطلب المحاسبة مع أيِّ تقصير أو حتى مجرد الظن
رابعاً- تقديم التنظيم على الفكرة:
وهذا الأمر بوضوح متغلغل داخل الحركات التي تتبنّى فكراً إسلامياً، ولها أنصار ومريدون كثر في الكثير من دول العالم، فالقيادات تعتقد أن أي تغيير حقيقي وبتفكير عميق ووعي احترافي، ربما يعيد التنظيم لاختلافات وانشقاقات، فيتم تسكين الشباب بمضادات فكرية قوية، تغرس فيهم الانتماء للتنظيم وقادته، مع نقد لاذع لكل من يحاول الخروج من التنظيم، حتى لو تبنّى نفس الفكرة.
خامساً- فقدان الثقة:
إن التخدير والتغييب –أحياناً- يكون الهدف منه -وبدون قصد- هو عدم وجود بدائل، أو لا يوجد ثقة مطلقة في الأنصار والمريدين، أو الخوف من وصول الترقب والمشاعر الصادمة لقلوب الأنصار في مواقف المحن مثلا، أو أحداث التضحيات، فيكون التخدير باباً كبيراً للسيطرة على هذه المشاعر، وعدم ترجمته إلى واقع قد يُظهِر عدم القدرة على الحشد أو الانصياع لمن يوجه ويدير، وغالباً ما يكون التخدير إشاعاتٍ تثبت القلوب لحظات، ثم ما تلبث أن يصحوَ الجميع على كابوس مفزع.
ختاماً، العامل البشري أصل من أصول تصدير التخدير والتغييب، لكن الاعتراف بالخطأ من شيم الكبار، والسعي لتصحيح المسار من حسن الفهم، وكلنا ذوو خطأ، وخير الخطائين التوّابون.
والمُطَمْئِنُ أنَّ كل هذه الأمور لها علاج، فنحن وإن كنا نضع أيدينا على الداء فإننا -ومن حسن فهمنا- سنصف الدواء.