في سياق الارتكاسات التي رافقت الثورات المضادة في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وما رافقها من حملات على ما يُعرَف بتيارات الإسلام السياسي، والتي –أي هذه الحملات– طالت الأصل الفكري والقيمي الذي تنطلق منه هذه الحركات، وهو المشروع الحضاري الإسلامي، والدين ذاته؛ وقعت العديد من المشكلات المفاهيمية والبنيوية في نفوس الأجيال الجديدة الناشئة، والتي تُعتبر –بالفعل– جريمة عصرها؛ بسبب حالة التجهيل والأُمِّية الفكرية والثقافية التي وصلت إليها!
وساهم في هذه الحالة مجموعة من المشكلات التي طرأت داخل الحركة الإسلامية ذاتها، ونزوع تيارات وشرائح عريضة منها إلى العنف، وممارسة القتل وأعمال الإرهاب التي لا يقبلها الإسلام، باسم الدين، وسواء أكانوا مدفوعين بباعث تأثيرات ما جرى من جرائم في حق الحركات الإسلامية في بلدانها، أو تم تأسيسهم من الأصل من جانب خصوم المشروع الإسلامي من الأنظمة والحكومات الاستعمارية؛ فإن ذلك أدى إلى تكريس هذه المشكلات المفاهيمية والبنيوية.
ومن بين أبرز هذه المشكلات قضية #الإلحاد، بدرجاتها المختلفة، والتي تبدأ برفض فكرة #التدين ومظاهره، بدءًا بخلع الحجاب من جانب فئات من فتيات الأجيال الجديدة، والتدرج حتى الوصول إلى ترك العبادات قناعةً بـ"عدم جدواها"!
وتتدرج تلك الظواهر؛ لتصل إلى مرحلة الشك لدى البعض، وتعزز ذلك من خلال مجموعة من النقاشات غير الرشيدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى تبني فكرة عدم وجود إله من الأصل، والإيمان بالنظريات المادية المختلفة التي وضعت لخلق الكون وصيرورته، بالرغم من أن أبسط الأدلة العقلية تقول: بأنه لا يمكن للكون أن يُخلَق ويسير على هذا النسق الدقيق، من دون خالق واحد أعظم يهيمن عليه، ويقوم على أموره.
وفي حقيقة الأمر، وبعيدًا عن أي شقٍّ سياسي في هذه المشكلة، فإنه من المستغرب من وجهة نظر علم الاجتماع، ومنه علم الأنثروبولوجي الثقافي، أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من فقدان فكرة الإيمان بوجود خالق أعظم مدبِّرٍ لهذا الكون، بالرغم من كل ما وصل إليه الإنسان من علم وتقدم في المجالات المعرفية المختلفة، والتراكم الحضاري.
من المستغرب من وجهة نظر علم الاجتماع أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من فقدان فكرة الإيمان بوجود خالق أعظم مدبِّرٍ لهذا الكون، بالرغم من كل ما وصل إليه الإنسان من علم وتقدم في المجالات المعرفية المختلفة، والتراكم الحضاري
ومن المعروف –وهي حقيقة قرآنية– أنه كلما زاد تدبر الإنسان في الكون والوجود قاده ذلك إلى إدراك الحقائق الإيمانية الخاصة بهذا الكون والوجود.
فيقول اللهُ تعالى، في سُورة "الحَج": {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}، وفي سُورة "العنكبوت"، يقول عز وجل: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}، وفي سُورة "فُصِّلَتْ": {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}.
وهي بديهية عقلية أكدها القرآن الكريم كذلك، وهي أنه لو أن هذا الكون من دون ربٍّ وإله، وربٍّ وإلهٍ واحد فقط، لا شريك له في ملكوته؛ لكان الكون قد زال وانهار، مع استقلال كل من الأرباب والآلهة بما خلقوا، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون!
ففي سُورة "المؤمنون"، يقول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}.
وحتى في عصور التوحش والبدائية الأولى، ومع ضياع الإيمان والتحضُّر عن بعض المجموعات البشرية، بعد انسياح نسل آدم (عليه السلام) في الأرض؛ كانت فكرة الإله الواحد لهذا الكون مرافقة دائمًا لهم.
حتى في عصور التوحش والبدائية الأولى، ومع ضياع الإيمان والتحضُّر عن بعض المجموعات البشرية، بعد انسياح نسل آدم (عليه السلام) في الأرض؛ كانت فكرة الإله الواحد لهذا الكون مرافقة دائمًا لهم
وحتى في الحالات التي تم فيها تصوير هذا الإله في صورة مادية، مثل "الطوطم" أو الأصنام لدى الشعوب البدائية، أو في صورة الشمس وغيرها من الموجودات الكونية من حولنا، كما في الحضارات المصرية واليونانية القديمة قبل ظهور اليهودية والمسيحية؛ فإنها في النهاية تعبر عن أن فكرة الإله الواحد المدبِّر لهذا الكون؛ راسخة في وجدان الإنسان، وفق منهج عقلي بسيط يقوم على أساس فكرة أن هذا النظام الدقيق للكون لا يمكنه أبدًا أن يتسق مع نفسه بهذه الصورة، إلا بوجود قوة مهيمنة عليه.
الشطر الثاني من القضية التي نحن بصددها في هذا الموضع، هي أهمية وقيمة الدين في حياة الإنسان، سواء على المستوى الفردي أو الجماعات.
فالدين في أبسط تعريفاته، هو منظومة من العقائد والأفكار والسلوكيات، تتضمن جوانب إيمانية، وأخرى أخلاقية، تحكم تصور الإنسان للكون، وعلاقاته، في إطار دوائر ثلاث:
الأولى- مع خالقه، وهي الأهم بطبيعة الحال، والدائرة الثانية- هي ذاته، والثالثة- هي دائرة الآخرين.
وبالتالي فإن الدين هو سياق منظم لحياة الإنسان، وعليه فإن غيابه يعني الفوضى، ولذلك نجد فكرة الدين بهذا المعنى، حاضرة عند مختلف الشعوب، مهما كان طبيعة هذا الدين التي تدين به هذه الشعوب، سواء أكانت ديانات سماوية إلهية المصدر، أو ديانات وضعية.
الدين هو سياق منظم لحياة الإنسان، وعليه فإن غيابه يعني الفوضى، ولذلك نجد فكرة الدين بهذا المعنى، حاضرة عند مختلف الشعوب
وهذا يحقق للإنسان حالة من الأمان النفسي، كما أنه يحقق حالة من الأمن والاستقرار لدى الجماعات، فلو غابت فكرة وجود الإله الخالق القادر، وما يتصل به من الثواب والعقوبة، في الدنيا والآخرة؛ لسادت الفوضى في الأرض، وساد سفك الدماء والسرقة، وتتحول الأمور من الانتظام إلى "شريعة الغاب"؛ حيث الغلبة للأقوى، وتسود فكرة استعباد الضعيف؛ حيث يكون الحفاظ على حياته لمجرد احتياج القوي إلى الأدوار التي يمارسها الضعفاء في خدمة الأقوياء.
وأوروبا العصور الظلامية، كانت أبلغ تعبير عن ذلك؛ حيث سادت منظومة السادة والعبيد هذه، بسبب عدم تمسك المجتمعات بالدين، وبمفاهيمه الأساسية في صدد مبدأ الأُخوَّة الإنسانية، والتكامل بين البشر، وما إلى ذلك.
كما أن الدين يحقق للإنسان الكثير من الأمور، من أهمها: تحريره من عبودية كل شيء غير الله تعالى، أو الإله الذي يعبد، وبالتالي فهو يحقق لديه عزة النفس والتقدير أمام الذات وأمام الآخرين، وهي من أهم وأرقى الاحتياجات الإنسانية، وفق كل علماء الاجتماع والنفس.
وبالتالي، فإن فكرة الإلحاد، سواءً فيما يخص قضية وجود الخالق، أو ضرورة الدين في حياة الإنسان، تتنافى مع الفطرة الإنسانية السليمة، ومع عقل الإنسان، ودليلنا في ذلك –كما تقدَّم– أن بعض الشعوب التي لا تعرف الرسالات التي أنزلها الله تعالى، "اخترعت" لنفسها أديان وبعضها وصل لحقيقة التوحيد.