الزائر المرهوب والحبيب المفقود

الرئيسية » خواطر تربوية » الزائر المرهوب والحبيب المفقود
life-and-death

يختلف الناس في استعداهم وتفهمهم لبعض الأمور، فتراهم بين محجم ومقبل، بعضهم يقبل على الشيء إقبال محب تواق، والبعض يفر منه فراره من الوحش الضاري، والموت من تلك الأمور التي يختلف استعداد الناس لها، الموت الزائر الذي يخشاه ويرتجف منه معظمنا، وثلة قليلة هي التي ترى به حبيباً يأتي على فاقة.

الموت الذي وصفه الله تعالى –لشدته- بأنه مصيبة، فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {فأصابتكم مصيبة الموت} [سورة المائدة:106]. الموت مقطّع الأوصال، وموطن الأحزان، ومفرّق الأحباب! وأتساءل: لماذا له هذا الوقع في قلوب البشر؟ وله كل هذا الحزن عند كل المخلوقات؟ مع أنه ليس نهاية الحياة بل بدايتها!

ووجدت أن السبب الذي يكدر خاطر هذا الكائن البشري الضعيف ويرهبه بهذه الدرجة من هذا الزائر يكمن في انقطاع مرغوب، أو فوات مطلوب، فالانقطاع عن المال والأهل والولد والخلان وما في كل هذه الحياة من مباهج وشهوات وطموحات وآمال يجعلنا نحزن لفراقها، ونتألم لقطع الصلة بيننا وبين التمتع بها، أو فوات مطلوب، وفيه أنّ كل واحد منا عليه حقوق وواجبات، ويختلف جهد كل فرد منا واستعداده في سبيل تحقيقها وأدائها، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق تذكر الغافلون، واستيقظ النائمون، ومع أول سكرة لنا تذهب معها كل لذة تذوقناها في مرغوباتنا؛ إذ يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون:99]، ونستيقظ من غفلتنا على سياط الحسرة والندامة على ما أضعنا من مطلوب؛ لتبدأ مرحلة التمني والرجوع؛ لنتدارك ما فاتنا من مطلوب، وتحقيق أدنى جزء منه. ولكن دون جدوى، فقد وقع المرهوب، وسبق السيف العذل، وفات الأوان، فيتحقق قول الله فينا: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة المؤمنون:100].

الانقطاع عن المال والأهل والولد والخلان وما في كل هذه الحياة من مباهج وشهوات وطموحات وآمال يجعلنا نحزن لفراقها، ونتألم لقطع الصلة بيننا وبين التمتع بها

وهذه المرغوبات التي أنفقنا أعواماً طويلة في تحصيلها ما هي إلا لذة وقتية آنية، كأننا لم نتذوقها أبداً، مجرد خروج أول نفس لنا، وزيارة هذا الزائر المرهوب لنا تبقى حسرة فوات المطلوب ملازمة لنا؛ ليكون الألم أضعافاً.

وبَدَرَ إلى ذهني –في هذه اللحظات من التأمل والتفكر في حال هذا الزائر- أنّ الإنسان إذا ما شغل بالمطلوب حقق المرغوب والمطلوب معاً، بل إن حياته تمتد حتى ما بعد الممات؛ لأن الإنسان لا محال هالك، ولو قضى ألف سنة بل آلاف السنين في التمتع بالمرغوبات، فهذا لا يمنع تنغيص عيشه ولو للحظات تنسيه لذة سنين دامت، وأي لذة تدوم سنينَ والإنسان –أساساً- يتقلب في كبد!، فقد قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [سورة البلد:4]، ولذة المرغوب سرعان ما تنتهي بأدنى مصاب يصيب هذا الجسد الهالك، وتبقى روحه تتقلب بنعيمها بقدر ما حقق من مطلوب منه على أكمل وجه.

فالإنسان إذا سعدت روحه حلقت واستعلت على أي ألم جسدي، وتستمر حياة المرء بحسب الشيء الذي يسخّر نفسه له؛ فإن سخّرها للذة عابرة أو شهوة عارمة ذهبت نفسه بذهاب هذه اللذة وتلك الشهوة، أما إن سخّرها لمبدأ سامٍ أو فكرةٍ راسخةٍ استمرت حياته باستمرار هذا المبدأ وتلك الفكرة؛ لأنها مطلوب خُلق الإنسان -أساساً- لتحقيقه، وعن مدى استعداده واهتمامه به يسأل، حتى بعد زيارة هذا الزائر المرهوب لا تنقطع حياته؛ لأن حياته إنما بهذه الفكرة المطلوبة تستمر، فتجد أجيالاً متلاحقة تسير على أثره تحمل فكرته وتعمل على ترسيخ مبدئه الذي من أجله كان يحيا، فتستمر حياته بقدر استمرار هذا المطلوب من مبدأ أو فكرة.

إن سخّر الإنسان حياته لمبدأ سامٍ أو فكرةٍ راسخةٍ استمرت حياته باستمرار هذا المبدأ وتلك الفكرة، وحتى بعد موته فإن هناك أجيالاً متلاحقة تسير على أثر تحمل فكرته وتعمل على ترسيخ مبدئه الذي من أجله كان يحيا

وبهذه الحال يبقى الإنسان مستعداً للقاء هذا الزائر من غير وجل أو رعب، أما الإنسان إذا ما عاش من أجل المرغوب يبقى في حسرة وألم وخوف على فقدانه؛ لأن نفسه وروحه بل جسده لا تتعدى هذه الدائرة. والتي سرعان ما تزول بأول مقدمة من مقدمات هذا الزائر من مرض أو ضعف، فتجده فقد بريق عينيه ونشوته؛ لأن مرضاً خفيفاً كالسعال كَفِيلٌ بتفويت تمتع الإنسان بأي مرغوب في هذه الحياة! فما بال المرء بزائر كالموت بشدته وكربته!

بقي على الإنسان العاقل أن يسعى لتحقيق المطلوب؛ لأن مدار الحساب والسؤال إنما يكون عليه وعن مدى الاستعداد له؛ لأن المرغوب لكل نفس حظها منه تأخذه بقدر، وإن اختلفت النسب من شخص لآخر، ولا يحاسب على قلته أو فقده؛ إذ لا جهد له فيه، أما المطلوب فعليه أن يبذل قصارى جهده؛ لتحقيقه وتأديته على أجمل هيأة وأحسن وجه؛ ليأخذ ثوابه في الدنيا والآخرة بحسب استعداده وبذل جهده في سبيله.

ألا من متدبر، ألا من متفكر، ألا من مشمر عن ساعد الجد والجهد!

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الحياة
  • الموت
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

    شاهد أيضاً

    مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

    ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …