قبرص، الجزيرة الأقرب إلى فلسطين جغرافياً، الجزيرة التي تجرَّعت مرارة الاحتلال الإنجليزي وما جرّه لها من ويلات أدّت إلى تقسيم الجزيرة بسبب السياسة الإنجليزية الخبيثة القائمة على مبدأ فرِّق تَسُد، تماماً كما حدث في فلسطين التي اكتوت هي الأخرى بنيران الاحتلال الإنجليزي الذي لم يخرج إلا بعد أن تركها مقسمة بين العرب والصهاينة الذين جلبوهم من وراء البحار إليها، وذلك ضمن خطة خبيثة يمكن أن تدخل ضمن وصف الجريمة الكبرى التي لا تغتفر.
إنها الجزيرة التي اتخذتها بريطانيا منطلقاً للعدوان الثلاثي على مصر من قواعد لها في الجزيرة بدءأ من 29 أكتوبر عام 1956م، حتى 7 نوفمبر من العام نفسه، وعادت لتستخدمها في أكتوبر عام 1973م، لدعم الكيان الصهيوني في حربه مع مصر، وقدمت التسهيلات والدعم اللوجستي لمشاة البحرية الأميركية والقوات متعددة الجنسيات التي نزلت بيروت عام 1978م.
إنها تلك الجزيرة التي ارتبطت بالجهاد والمجاهدين وكانت مصدر إلهام للصحابة التائقين لتحقيق موعود نبيهم صلى الله عليه وسلم بالظفر والتمكين وقد كان ذلك لهم بحرصهم على اقتفاء هديه ونهجه وثقتهم المطلقة بما كان يبشرهم بحصوله ولو بعد حين. فقد جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثم استيقظ وهو يضحك، قالتْ: فقُلْت: وما يضحكك يا رسولَ اللهِ؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو: مثل الملوك على الأسرة). شك إسحاق، قالتْ: فقُلْت: يا رسولَ اللهِ، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقُلْت: وما يضحكك يا رسولَ اللهِ؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله). كما قال في الأولى، قالتْ: فقُلْت يا رسولَ اللهِ، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين)..
إنها أم حرام بنت ملحان المجاهدة التي شاركت في معارك أحد وحنين والخندق والفتح والطائف مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه. ثم إنها خرجت مع زوجها غازية في البحر، وذلك في إمارة معاوية وخلافة عثمان، حتى إذا وصلوا إلى جزيرة قبرص خرجت من البحر، فقرِّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت، ودفنت في موضعها هناك في تلك الجزيرة التي تحتضنها لتكون مَعلماً للأجيال أن نساء المسلمين كنّ يتشبثن بأزواجهن ليسافرن معهم، سائحات إلى الشواطئ والجزر.. سياحة خاصة قال عنها نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنَّ سياحةَ أمتي الجهادُ في سبيلِ اللهِ). صحيح الجامع للألباني، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
سياحة هدفها رفع لواء الحق خفاقاً في الآفاق ليسود العدل ويرتفع شأن القيم والأخلاق، ويتحرر الخلق من عبادة الخلق والاستعباد لهم إلى عبادة الخالق والخضوع له وحده، ليخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام..
سياحة تسابق المرأة فيها الرجل لنيل شرف إيصال أنوار الرسالة إلى من أرهقتهم ظلمات الجاهلية وأتعبهم اللهاث خلف السراب. سياحة تسابقه فيها لنيل الشهادة الأسمى والأغلى للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، كما فعلت أم حرام رضي الله عنها فكان مثواها الأخير على ساحل جزيرة قبرص حيث بني قربها مسجد لارنكا الكبير المعروف أيضاً بمسجد أم حرام وتكية هالة سلطان (Hala Sultan Tekkesi)، فهل يكون من حفيداتها على تلك الجزيرة من يجدد همتها وعزمها وجهدها وجهادها؟
هل تعي بنات الإسلام على تلك الجزيرة أن الأرض التي يطأنها قد جبلت بالدماء الزكية عبر السنين ليبقى نداء "الله أكبر" عالياً في فضائها.. ألم تسل الدماء غزيرة على أيدي العصابات اليونانية خلال الأعوام من 1961 حتى 1974م؟
ألم تستنفر تلك الدماء نخوة القائد (المجاهد) نجم الدين أربكان ليحرك الجيش التركي دفاعاً عن أرواح المسلمين وأعراض المسلمات هناك؟
ذلك المجاهد الذي كانت له بصمات واضحة لنصرة قضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين والأقصى فهو القائل: "فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم ولا للعرب وحدهم، وإنما للمسلمين جميعاً". إنه ذلك المهندس الذي أبى أن يذوق المسلمين الهوان والذلَّة فتسلَّح بسلاح العلم والإيمان وتجاوز كل الحدود المصطنعة لينصر أبناء أمَّته ويسعى لتوحيد شعوبها لتتبوأ منبر الريادة.
إنها أمثلة تحتذى لحفيدات أم حرام بنت ملحان اللاتي رأيناهنَّ في جنبات كلية الشريعة شمال قبرص وهنَّ يُقِمن الفعاليات دعماً لقضية القدس وفلسطين وتعريفاً بالمسجد الأقصى المبارك والمعارف المتعلقة به، يتلمسن تلك الخطى المباركة لأم حرام وهنّ ينهلن من معين الشريعة الصافي، يتمثلن أم حرام راكبةً ثبج البحر، ملكةً متوجةً بوشاح العز والفخر. قلوبهنَّ معلقة بالمسجد الأقصى وأرواحهنَّ تحلق حول قبابه.. لسان حالهنَّ يقول: سنركب البحر الذي خاضته أمُّنا أمّ حرام لنعيد للقدس طهرها وللأقصى كبرياءه.