لم يكن حسن البنا -بمشروعه الحضاري الضخم- نتاجاً لحظياً بالعالم العربي والإسلامي، وإنما كان -رحمه الله- نتاج حركة فكرية كبيرة، بدأت منذ أن كانت بلاد المسلمين مفتوحة على مصراعيها؛ لاستقبال المستعمرين الأوروبيين، دون مقاومة قادرة على التصدي لهم، هذا غير المشروع الثقافي الغربي الذي حملته عقول المستعمرين؛ ليفرضوا هويتهم بتضييع معالم البلاد المستعمرة.
بدأت الحركة الإصلاحية بالعديد من الأسماء ليكمل البنا هذا المسار والمشروع الحضاري ويتمه؛ ليضع تصوراً كاملاً ممهداً لحضارة إسلامية، كان من الممكن أن يحدث عملية تغيير حقيقية، لولا أخطاء تنظيمية وقعت فيها الحركة الإسلامية من بعد، ولولا المؤامرات التي استغلت حالة الضعف والهزال الثقافي للأمة التي لم تتحرر من الاستعمار فكرياً، بل أستطيع أن أؤكد أنها أصبحت في حالة يمكن فيها أن تدافع عن المستعمر وأذنابه! وهذا ما أكدته الأحداث بعد ذلك في فترة ما يسمى: "بالربيع العربي".
وهناك ثلاثة عناصر رئيسة، وضحت ملامح المشروع الحضاري للشيخ البنا، تحدد توجه المجتمع تجاه ذاته أولاً، ثم تجاه قوميته العربية ثانياً، ثم تجاه وطنه الأكبر، وهو الوطن الإسلامي الكبير.
الوطن في نظر البنا
أولى القرآن الوطن الصغير أهمية خاصة، حين أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، وكلفه بإنذار العشيرة المقربة، فقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}[الشعراء:27]، كما قال سبحانه: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف:44].
ولقد صبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاما! يدعوهم بلا كلل أو ملل أو شكوى، دون أن يفكر في الهجرة، إلى أن أخرجوه من أرضه قائلاً عليه الصلاة والسلام في توديعه لمكة موطنه: (والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت).[أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو يعلى في مسنده].
ويقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس عن الوطنية والقومية: "إن الإسلام فرضها فريضة لازمة لا مناص منها، أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحماً وجواراً، حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكاة أبعد من مسافة القصر، إلا لضرورة".
عز الإسلام في عز العرب:
يقول البنا يرحمه الله: "هذا الإسلام نشأ عربياً، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان، وقد جاء في الأثر: "إذا ذل العرب ذل الإسلام". [رواه أبو يعلى].
والإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ألا إن العربية اللسان".
ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه؛ لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها.
الوحدة الإسلامية غاية كبرى!
اتخذ الإمام البنا من كتاب الله آيات تمثل عناويناً للدستور الذي وضعه لجماعته، وفي هذا المضمار استشهد بالآية الكريمة: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم أخو المسلم) [رواه البخاري ومسلم]، و (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم). (رواه أبو داود والنسائي والحاكم).
ويستطرد قائلا: "فالإسلام والحال هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعترف بالفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعاً أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعدت أقطاره".
اتخذ الإمام البنا من كتاب الله آيات تمثل عناويناً للدستور الذي وضعه لجماعته
ثم يضيف: "وضح إذن أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة، باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأساً بأن يعمل كل إنسان لوطنه، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي".
هذا بالنسبة للإطار العام للمشروع الحضاري عن حسن البنا، فأما بعض العناوين التي تميز هذا المشروع، فقد ظهرت جلية في الركن الأول للبيعة وهو ركن الفهم، وهذا الركن فصله في عشرين أصلا، هي الأصول العشرون، حددت في إيجاز شديد معالم مشروعه الذي قدمه للأمة، وأعتقد أن جزالة ألفاظه التي اختارها لصياغة تلك الأصول، وتركيزها وشمولها أعجز فعلاً المجتهدين من بعده حتى الآن أن يضيفوا إليها أو يحذفوا منها، رغم أنه فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وأعطى للعقل فرصة لا تتوفر له إلا في ظل التشريع الإسلامي.
ومن الملامح العامة لمشروع البنا الحضاري:
أولاً: أنها مستمدة من أصل الدين، والهوية الإسلامية، والثقافة العربية، وأنه يعتمد اعتماداً كلياً في تطبيقه على الاستغناء الكامل عن الفكر الغربي والحضارة الغربية المادية، فيقول في الأصل الأول: "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواءً بسواءٍ".
من الملامح العامة لمشروع البنا الحضاري أنها مستمدة من أصل الدين، والهوية الإسلامية، والثقافة العربية، وأنه يعتمد اعتماداً كلياً في تطبيقه على الاستغناء الكامل عن الفكر الغربي والحضارة الغربية المادية
ثانياً: أنه تعامل مع النصوص بحكمة ودراية وعمق فهم، فأعطى العقل حقه في النظر والبحث، ولم يخلط بين النقل والعقل، أو بين التنزيل والتفكير، فالله عز وجل في محكم آياته وجه عقل المسلم ونظره للبحث في ملك الله وخلقه: {قل سيروا في الأرض فانظروا...} [النمل:69، العنكبوت:20، الروم:42]. {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}[الرعد:3، الروم:21، الزمر:42، الجاثية:13]. فالتنزيل فتح الطريق للعقل والفكر؛ للانطلاق والبحث، فيقول في الأصل الثامن عشر: "والإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها".
ويقول في الأصل التاسع عشر: "وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار".
ثالثاً: وضع البنا مرجعية ثابتة لمعرفة أحكام الإسلام، وهي القرآن الكريم، والسنة المطهرة، فيقول في الأصل الثاني: "القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقاة".
رابعاً: صلاحيات الحاكم الذي يختاره المسلمون ونائبه الذي يختاره بالنيابة عنهم يطلقها البنا لتعمل في صالح جمهور المسلمين دون إخلال بالشرع، فالحاكم أو الإمام هو حارس على الدين، وعامل على مصالح العباد، فيقول في الأصل الخامس: "ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد".
خامساً: يحدد العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم، وحدود حرية الرأي المقبولة شرعاً، وحق المسلم في حماية رأيه ما لم يصطدم بقاعدة شرعية واضحة وصريحة، فلا يتم تكفير مسلم أو التعدي على حقه في التعبير أو رأي يتبناه، فيقول في الأصل العشرين: "لا نكفر مسلماً -أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض- برأي أو معصية، إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن الكريم، أو فسره على وجه لا تحتمله اللغة العربية، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلاً غير الكفر".
أين الحركة الإسلامية اليوم من تفاصيل هذا المشروع الحضاري بما آلت إليه في زماننا، حين خاضت تجربة المشاركة في الحكم ودخوله عن طريق مظلة المعارضة الواعية
ولنا أن نتساءل، أين الحركة الإسلامية اليوم من تفاصيل هذا المشروع الحضاري بما آلت إليه في زماننا، حين خاضت تجربة المشاركة في الحكم ودخوله عن طريق مظلة المعارضة الواعية! وهل بلغت ذروة عطائها حين توسدت سدة الحكم في بعض البلدان بعد انتفاضة الشعوب العربية فيما يسمى: "بالربيع العربي"! وسؤال أخير: أين الحركة الإسلامية من تلك القواعد والأسس التي ارتضت بها دستوراً لها، تتحرك به في سبيلها؛ لتحقيق غايتها الكبرى!