• الصحبة والإيمان.
نهفو إلى الصحبة والأخوة والصداقة، بدافع أن نطلب الله فيها، ونستعين بشد الأزر على إذكاء الإيمان، وذلك حَسَن كل الحسن. لكن الإشكال أن تصير الصحبة هي مناط الإيمان، ونطلبها هي لذاتها على الحقيقة، وإن ظل "اسم الله" الشعار المعلن، وبالتالي يعيش الفرد منا انفصامًا أو منحنيات إيمانية حادة، فيعلو المؤشر الإيماني سامقاً وسط تلك الصحبة بل بها. فإذا غابت الصحبة هبط تماماً حتى نعود إليها "فنشحن منها". وإذا بنا لا نذكر الله إلا في الصحبة، ولا نصبر على نفع جاد إلا بالدفع الجماعي، ولا على صفحة في كتاب حتى نحدّث بها من يعجب بنا! والأدهى أن كل ما نحصّله من طاقة من الصحبة، نضيعه فور أن نخلو بأنفسنا حيث إطلاق العنان للهوى والكسل والخمول وكافة المتلفات الجذابة.
وتتجلى آثار ما سبق في ظاهرة منتشرة، حين نتخرج من الجامعة ونخالط الدنيا وسوق العمل، فتبدأ أواصر الصحبة في الانحلال عروة عروة، بدافع الانشغال والتفرق واختلاف سبل الحياة، ومع كل عروة تنحل يذهب بعض إيماننا. فإذا الذي كان يختم القرآن شهريًا لا يعود يتلو منه شيئاً إلا قصار السور في الصلاة. وإذا المتنفل المحافظ على السنن الرواتب، لا يكاد يقيم الفريضة إلا بشق النفس، وإذا التسابق على أوراد الذكر لا يبقى منها إلا النزر اليسير، حتى ذاك لا يكاد يستمر يومين متتالين (وحل هذه الآفة المعيّنة ميسور: وهو أن يكون للفرد ورد مخصوص بينه وبين ربه، يكون أشد حفاظاً عليه مما يرتب بينه وبين الناس من أوراد، ولا يغتر بما ينجز في الملأ عما يتم في خاصة نفسه).
من جهة أخرى، كثير من تصوّرات الأخوة الإيمانية اليوم، وظاهرة اللصوق النفسي باليد التي تنتشلك، والصديق الذي يرتقي بك، مشوبة بكثير من هوى النفس، وجاذبية الانخراط الاجتماعي، والرهبة من مواجهة آفاتها الداخلية، من كسل وتخاذل وعدم جدّية في الطلب. يكفي أن انعدام الصحبة أو انشغال الصديق الصدوق هو من أعظم شماعات الأعـذار؛ لانحدار الالتزام الشخصي. لذلك من لم يكن من نفسه لنفسه صاحب، وعليها منه رقيب، فالصحبة الخارجية تنقلب ستارًا له عن نفسه، لا معينًا له عليها؛ لاشتغاله بغيره عن نفسه، وشتان بين من يطلب الله، ولو في صحبة، ومن يطلب الصحبة، ولو في الله.
كثير من تصوّرات الأخوة الإيمانية اليوم، وظاهرة اللصوق النفسي باليد التي تنتشلك، والصديق الذي يرتقي بك، مشوبة بكثير من هوى النفس، وجاذبية الانخراط الاجتماعي، والرهبة من مواجهة آفاتها الداخلية
هذه ليست دعوة للفردانية ونبذ الصحبة، أو التقليل من رضا الله عن الاجتماع على خير، بل نداء تنبيه لحقيقة المسؤولية الفردية، والتيقظ لمقاصد عصر الاجتماع والمجتمعات بامتياز.
• الصحبة وبناء الذات.
من جهة أخرى، كثيراً ما نعلّق آمالنا بتحسين أنفسنا وإصلاحها على انتظار "الصحبة المعينة" وحين نقطع شوطاً في ذلك نظل بحاجة لتلك الصحبة؛ لتثبتنا أو تشدنا من جديد، عندما نبعُد، والصحبة الصالحة محمودة لا ريب، لكن اشتراطها على هذه الصورة، وانتظارها بهذا التعلق هو الذي قد ينقلب تعجيزاً وتسويفاً؛ لأننا نحصرها في صورة واحدة لازمة، في أشخاص، والأشخاص دائماً في تقلب وانشغال، ومهما دام التعاهد والتواصل بينهم لن يخلص أحد من ضرورة قيامه بأمر نفسه بنفسه، فلا يقضي أحد معك من الوقت والصحبة كما نفسك.
إذن ما النصيحة؟ يقولون إن المجانسة بالمجالسة، وإن الصاحب ساحب، وذلك ينطبق على مفهوم الصحبة بوجه عام، وهو كل شيء تصحبه، وكل جو تحيط به نفسك:
• تريد الهمة والعزم واتّقاد الروح؟ عليك بالسير والتراجم لمختلف مشاعل الإنسانية.
• ترجو رقة القلب، وهزّة الوجدان؟ عليك بسماع الرقائق، ومقاطع التذكرة، والقراءة الدورية من كنوز تراثنا مما كتب في التزكية.
• تتمنّى الذائقة الأدبية والبيان الرائق؟ انقطع لمطالعة عيون الأدب العربي من الدر المنثور والشعر المنظوم.
• تطمح التمكن من اللسان العربي أو لغة أجنبية؟ اغمس حواسك في معايشتها سماعاً ومحاكاةً وقراءةً.
• تتطلع للأفكار والإلهام؟ اطلب صحبة الطبيعة، وأحضان الأجواء الطلقة، وأطلق العِنان للتفكر في حالك، والتأمل في دواخل نفسك.
• ترجو أن تتخلق بأخلاق القرآن؟ تعلّق بحبائل الدعاء، واجعل أورادك منه محور يومك وثوابته، واشْغَلْ حواسّك كافة به، تلاوةً ونظراً واستماعاً.
وهكذا، انظر إلى أي شيء تمنّي نفسك أن تكون عليه أو تتمكن منه، فاصحب أدواته ووسائله، تأخذك إليه مباشرة. والسر كل السر في كلمة الصحبة:
• الصحبة = أدومها وإن قل.
• الصحبة = الأجواء المحيطة بك.
• الصحبة = الصبر والانقطاع لها حتى تثمر.
إن ما نحتاجه حقيقة؛ لنرتقي بجودة حياتنا، ومعادن نفوسنا، ليس انتظار صحبة تهبط من السماء، وإنما صناعة الصحبة بوعي مما نحيط أنفسنا به، وغربلة ما نصحب بجدية
إن ما نحتاجه حقيقة؛ لنرتقي بجودة حياتنا، ومعادن نفوسنا، ليس انتظار صحبة تهبط من السماء، وإنما صناعة الصحبة بوعي مما نحيط أنفسنا به، وغربلة ما نصحب بجدية. وذلك أيسر ما يكون في عالم اليوم؛ حيث تتحكم في إعدادات كل ما حولك من تطبيقات ووسائل تواصل، وتختار ما يصل إليك وما تحجبه عنك! لكننا نستسلم لكسل التلقي السلبي على عواقبه الوخيمة، ونستثقل جدية الصناعة الواعية لمدخلات حواسنا، ثم نلقي باللوم على تلك الصحبة المنتظرة التي حُرمنا منها!
وإذا كان المثل السائد: "قل لي من تصحب أقل لك من تكون" فالشعار الذي نرفعه الآن: انظر من تريد أن تكون، فاختر على أساسه من وما تصحب.