لماذا تبدأ بعض العلاقات قبَسًا من خَيال جميل، ثم لا تلبث تستحيل قطعة من عذاب أثيم؟ ولماذا كانت بالأمس القريب موردًا عذبًا لوارديها، وهي اليوم تنفث من الكدر ما يسمم مشربهم؟ ولماذا نظل في شد وجذب منهك في علاقات لم تعد منا ولم نعد منها في شيء؟ لماذا نخشى الفراق بقدر ما نحتاجه أحيانًا؟ ونلح على الهجر بقدر ما نتوق للوصل؟ هل هذا من طبائع الأشياء، وسنن العلاقات الإنسانية حقًا؟ أم أن هنالك حلقة في ذلك السلسال أغفلناها، فانفصمت ذلك الفصم المؤلم؟
الإنسان مشتق من الأنس، وكان أول خلق بعد آدم؛ لتحقيق ذلك الأنس. ولا يتم الأُنس إلا باثنين فأكثر، والطرف الأول لوقوع الأنس وتحققه، يبدأ دائمًا من نفسك، مبدأ الأنس دائمًا (الأنا). ففي ذلك الحبيب تشهد (الأنا) نفسها كأجمل ما تكون، كأنا ذلك الحبيب ليس نصف(الأنا) الآخر، بل هو (الأنا) نفسها في بدن آخر في نفس الوقت ونفس الحياة، ولذلك أعتى الخصومة ما تكون بين متحابين؛ لأن (الأنا) كأنما تقاتل نفسها بنفسها، وتخاصم قطعة منها وهي فيها!
أعتى الخصومة ما تكون بين متحابين؛ لأن (الأنا) كأنما تقاتل نفسها بنفسها، وتخاصم قطعة منها وهي فيها
وكذلك في الصديق من معاني(الأنا) ومرآتها ما لا تتم إلا به، ولا تتكشف إلا معه، وفي الأبوة والأمومة إرواء لحاجات (الأنا) وعواطفها، وفي الأستاذية حب منفعة (الأنا)، وفي الطالبية حب مفخرة (الأنا) وعزوتها، وحتى في حب القرابة حب لدم (الأنا) الساري فيه.
ولأن الأنس مبدؤه (الأنا)، فمنشأ إشكالاته من هناك كذلك. إما شطط في تلك (الأنا)، فتنتهي إلى (الأنانيّة)، حيث يتمحور الأُنس وقتها حول إرضاء تلك (الأنا) وإروائها من الآخر، وتتغافل (الأنا) أو تغفل عن حق (الأنا الآخر) أن يأنس بها ويأنس إليها، فلا تحرص (الأنا) على مد نفع له، ولا وصله بخير، ولا إعطائه حقه منها في الإرواء، ولا حتى ترحمه من شديد اتكائها عليه واستنزافها له! وإذ ذاك يتهتك أنس الطرف الآخر بتلك (الأنا) وينكمش تلقائيًا، فلا يعود يروي تلك (الأنا) كما كان أول مرة، فتثور عليه (الأنا) ساخطة وتكثر لومه. والحق أنها تلوم أثرها فيه، وتشتكي من جفوة في أنس كانت هي أول الجافين فيه، منذ بدء أنسها به!
في (الأنانية) تجمح (الأنا) في لهفة محمومة لتحصيل كل شيء!
والإشكال الثاني هو شطط في تماهي (الأنا) وذوبانها تمامًا في مثل ذلك الأنس، فلا تعود (الأنا) تشهد نفسها في ذلك الآخر، بل تستمد منه قيمة وجودها ومعناه، ولا يعود الآخر يشهد من (الأنا) ما يؤنسه بها، بل يشهد من عِظم أثره عليها ما يزهّده في مزيد من نفسه فيها! وإذ ذاك يتجاوز الشأن أنسًا وائتناسًا سويًا بين اثنين، لينقلب استمدادًا لوجود واحد من آخر لا يملك أمر الوجود! وهكذا يصير وجود (الأنا) متوقفًا على ذلك (الآخر)، وتلاشيه بأي درجة يعني بالضرورة انهدام (الأنا) بالكلية، فينقلب ذلك الآخر من "أنس" إلى "إدمان"، إما إدمان نشوة مسكر، لا تحتمل (الأنا) أن تفيق منه؛ لأنها لا تدري ما تفعل في صحوتها، أو إدمان "اعتياد" وجود الآخر وخلقه لمعاني وجودها، فالآخر هو الذي يحتوي، ويسند، ويعين، ويسأل، ويحب، ويحضر، ويفعل ويفعل، و(الأنا) في المقابل تهوَى وتهوى وتهوى، فتهوِي وتهوي وتهوي. ومن هنا ترتعد (الأنا) فرَقًا لمجرد خاطر غياب الآخر، أو فراقه، أو بعده؛ لأنها توقن يقينًا أنها بغيره لا تقوم لها قائمة، فتستمر ذليلة ضعيفة في وصال جافٍّ وجافٍ ينهكها وينهك منها؛ لأن ذل نفسها أهون عندها من مواجهتها، وهَوَى (الآخر) أشرس أغلالًا من هَوِيّ (الأنا).
في (الذوبانيّة) تجنح (الأنا) في لهفة مذمومة للتنازل عن كل شيء!
عدم السواء مع نفسك أولًا، وسوء التوازن والتفاعل وغياب الحوار بين عقلك ووجدانك، سينسحب بالضرورة على تفاعلاتك وعلاقاتك كلها مهما كان الطرف الآخر نموذجيًا في معاملته معك
لذلك ليست العلاقات التي نتصل بها وتتصل بنا هي الإشكال، فلن تملك أبدًا أن تحكم سلوك الغير ونواياهم وردود فعلهم. لكنك تملك نفسك وما يتفرع عنها من سلوك، فإن كنت عاجزًا عن حكم ما تملك، فأنت عما لا تملك أعجز! وإنّ عدم السواء مع نفسك أولًا، وسوء التوازن والتفاعل وغياب الحوار بين عقلك ووجدانك، سينسحب بالضرورة على تفاعلاتك وعلاقاتك كلها مهما كان الطرف الآخر نموذجيًا في معاملته معك.
الأنس طرفه الأول دائمًا من (الأنا)، فأول ما تأنس به إذن نفسك، وإن لم يستقم لك أنس بنفسك فلن يستقيم لك أنس بأحد أو مع أحد. وجوهر أنسك بنفسك صحة أنسك بربك، الذي مادة حياتك نفخة من روحه، فأنى تستقيم مبتورة عنه؟
• وشتّان بين من يبني لنفسه علاقات، فيأنَس ويُؤنس به.
• ومن يبحث عن نفسه في العلاقات، فينهَك ويُنهِك معه.