هناك في العلوم السياسية ما يعرف بنظرية السلام العالمي المنبني على القوة، وتعتمد هذه النظرية على أساس مبدأ أن السلام العالمي لا يتحقق سوى في إطار نظام عالمي أحادي القوة أو "Uni Polar System"، تهيمن فيه قوة عظمى "Super Power" أو قوة أعظم "Hyper Power".
وعبر التاريخ، لم يعرف العالم نماذج عديدة لهذا، وفي الأدبيات السياسية الغربية، فإنه باستثناء فترة هيمنة الدولة الرومانية خلال الفترة ما بين العام 500 قبل الميلاد، وحتى مطلع القرن الثالث الميلادي، على غالبية ما يُعرف بالعالم القديم، لم يعرف العالم هذه الحالة من #السلام المبني على القوة أو المعروف باسم "Paxa"؛ حيث عُرفت تلك الفترة في العلوم السياسية الحديثة، بـ"Paxa Romana".
ولقد حاول غُلاة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، مثل صموئيل هنتنجتون وفرانسيس فوكوياما، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، "التبشير" بنموذج جديد لهذا النوع من السلام العالمي المفروض بقوة السلاح والهيمنة السياسية بالتالي، فطرحوا شعار الـ"Paxa Americana"، في مرحلة السيولة في العلاقات الدولية والنظام الدولي، التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانهيار نظام الثنائية القطبية "Bi Polar System" الذي ساد العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وتأثر هؤلاء بالانتصار الكبير الذي حققته القيم الغربية، ممثلة في مثلث الليبرالية والرأسمالية والعلمانية، في الصراع الحضاري مع الشرق، والتفوق الكبير للولايات المتحدة في مختلف عناصر قوة الدولة والأمم، وخصوصًا في المجال العسكري والعلمي والاقتصادي، وهي المجالات التي تؤسس لهيمنة الدولة وسيادتها سياسيًّا، فقالوا مقولات تأسيسية مهمة في هذا الصدد، كان أهمها "نهاية التاريخ" أو "of history End".
ولكن علماء سياسة آخرين على قدر كبير من الحصافة، مثل جوزيف إس. ناي، قالوا بأنه من المبكر الحكم بذلك، وأن هناك قوىً صاعدة قد تصل في غضون عشرين عامًا (منذ منتصف التسعينيات)، سوف تتحدى الهيمنة الأمريكية، وأن النظام العالمي لا يزال في حالة سيولة، لا يمكن معها إطلاق هذا الحكم.
وهو ما تحقق بالفعل؛ حيث عادت روسيا كقوة نووية وصناعية عظمى، وظهرت الصين وتكتلات مثل الاتحاد الأوروبي ومجموعات اقتصادية تضامنية للعالم الثالث، مثل مجموعة "البريكس"، التي تضم أكبر اقتصاديات في العالم، خارج إطار السبع الصناعية الكبرى (G7).
ولكن كما نعلم جميعًا، فإن التاريخ يُكتَب بشكل غير منصف أو محايد؛ حيث يُكتب بناءً على وجهة نظر كاتبيه، وكاتبوه في الغالب يكونون من الأمم الغالبة.
ولذلك؛ لا تضع كتب العلوم السياسية أو التاريخ، النماذج الإسلامية في أي اتجاه أو مجال، وهو اتجاه حديث العهد نسبيًّا في كتابة التاريخ في الغرب؛ حيث الأجيال السابقة التي ظهرت في القرون الوسطى ومرحلة التنوير وما بعد التنوير؛ كانوا أكثر إنصافًا؛ ربما لأنهم كانوا أكثر من استفاد من الميراث الحضاري للدول الإسلامية المختلفة، سواء في القانون والتشريع، أو في العلوم، أو في النواحي المؤسسية، وفي غير ذلك.
وربما كانت الدولة الإسلامية في الأندلس، والدولة العباسية، هي الدول التي كانت أكثر ما يمكن أن يعبر عن الإسهام الحضاري للإسلام عبر تاريخ الإنسانية الطويل، في مختلف هذه المجالات وغيرها.
وفي هذا الإطار، فإن الدولة العباسية، وخصوصًا في مرحلة الازدهار الأولى، في الفترة من العام 750 ميلادية، وحتى وفاة الخليفة الواثق بالله، واسمه الحقيقي، هارون بن محمد بن هارون الرشيد، والذي حكم في الفترة ما بين العام 842 ميلادية وحتى مماته في العام 847 ميلادية.
فبعده بدأ العصر العباسي الثاني، الذي يُعرَف بـ"عصر الحرس التركي"، واستمر حتى العام 1055 ميلادية وكان عصر ضعف وانحطاط، وأهم صور ذلك كان استقلال الولاة والسلاطين في أمصار الدولة المختلفة، وبالتالي كانت فترة حروب صراعات داخلية ودولية.
في فترة الدولة العباسية الأولى، عرف العالم مرحلة من السلام استمرت حوالي مائة عام، فرضت فيها الدولة العباسية سلطانها، وأصبحت أكبر إمبراطورية في العالم؛ حيث ترامت أطرافها من حدود الصين شرقًا، وحتى بلاد المغرب العربي غربًا، وشملت مناطق بلاد فارس وخراسان وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر وسائر شمال أفريقيا.
في فترة الدولة العباسية الأولى، عرف العالم مرحلة من السلام استمرت حوالي مائة عام، فرضت فيها الدولة العباسية سلطانها، وأصبحت أكبر إمبراطورية في العالم
كان للتقدم الكبير الذي حققته الدولة العباسية، وخصوصًا بعد بناء حاضرتها الأهم، بغداد، في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك في الجوانب الثقافية والعلمية؛ حيث انتشرت الجامعات والمكتبات في مختلف ربوع الدولة؛ كان لها دورٌ كبير في تحصين الدولة العباسية، فصارت موئلاً لطلبة العلم وأهل القانون والترجمة، وغير ذلك من الفئات، في ظل ما وفرته الدولة من إمكانيات في ذلك الحين.
واستند ذلك إلى عناصر قوة الدولة التي تشترك كل كتب العلوم السياسية في تعريفها، وهي القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية، بحيث فرض ذلك حصانة ومتانة لموقف الدولة، جعلها مهابة الجانب ومهيمنة سياسيًّا على العالم القديم.
وربما لم يستمر هذا الوضع لذات الفترة التي استغرقتها الدولة الرومانية في أوج سطوتها، ولكن الدولة العباسية الأولى، إذا ما وضعنا فيها إمارات المغرب العربي، دولة الأندلس التي قدمت الولاء للخليفة العباسي في بغداد في بدايات تأسيسها؛ فإنها تكون أكبر مساحة من الدولة الرومانية في أقصى اتساع لها.
مظاهر تفوق الدولة العباسية الأولى:
يمكن رصد عدد من مظاهر ذلك، في مختلف المجالات والاتجاهات، السياسية والاجتماعية والثقافية، وحتى العسكرية.
على المستوى العسكري؛ مثَّلت قوة الدولة العباسية الأولى في أوج تفوقها العسكري، وقت الخليفة أبو جعفر المنصور ثم الخليفة هارون الرشيد، عامل ردع مهمًّ؛ حيث لم يعرف السياق الجيوسياسي الذي كان يمثل العالم في ذلك الحين، من مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وحتى تخوم آسيا الغربية، حروبًا إقليمية كبرى، مع ترسيخ القوة العسكرية للدولة العباسية، وخصوصًا بعد تكوين جيش وأسطول كبيرَيْن من المسلمين، من أبناء الأمصار المفتوحة، ولاسيما من بلاد خراسان والأفغان وفارس، كرَّس هذه الحالة من توازن القوى التي تحقق السلام الإقليمي والدولي.
لم يعرف السياق الجيوسياسي الذي كان يمثل العالم في ذلك الحين، من مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وحتى تخوم آسيا الغربية، حروبًا إقليمية كبرى، مع ترسيخ القوة العسكرية للدولة العباسية
في المقابل؛ كان هناك ترشيد سياسي لاتجاهات الفتوحات الإسلامية وقت الدولة العباسية الأولى؛ حيث تم توجيه الفتوحات إلى مناطق المشرق العربي والإسلامي، بينما لم يتم الضغط على جبهات وسط وغرب أوروبا، منعًا لحدوث تدافع القوى المسيحية في أوروبا، تتجاوز به خلافاتها السياسية والطائفية، بما يهدد الدولة الإسلامية التي كانت لا تزال في طور التشكيل والتوسُّع.
في الجانب الاجتماعي والسياسي الداخلي؛ ذكرنا أن الدولة العباسية اعتمدت في مفاصل الدولة، وفي الجيش، ومختلف المؤسسات، على الجمع بين مختلف العناصر التي توجد في البلدان التي تم فتحها، مع الاستفادة من دخول هذه الشعوب إلى الإسلام، في معرفتها باللغة العربية، وبالتالي؛ توحيد لغة المؤسسات الرسمية لدولة الخلافة، وفي ذات الوقت الاستفادة من الكفاءات والعناصر الموجودة في البلدان المفتوحة، وتحقيق التكامل بينها؛ كلٌّ فيما يخصه. فالمصريون والعراقيون يجيدون الزراعة، بينما بلدان آسيا الوسطى وما وراء النهر؛ كانت تمتاز بالعناصر المحاربة، وهكذا.
قامت الدولة العباسية بالاستفادة من الكفاءات والعناصر الموجودة في البلدان المفتوحة، وتحقيق التكامل بينها؛ كلٌّ فيما يخصه
ولكن هذه النقطة، ربما كانت أحد أسباب ضعف الدولة العباسية كما يرى البعض؛ حيث إنه عندما ضعفت القيادة المركزية في بغداد، ساعد ذلك فيما بعد على تمرد ولاة الأقاليم من غير العرب، وتمكين القبائل الأتراك السلاجقة من بلاط دولة الخلافة. ولكنه وقت سيادة بلاط الخلافة وسيطرته على المراكز والأطراف في المائة عام الاولى من تاريخ الدولة العباسية الطويل؛ كان ذلك ميزة بطبيعة الحال.
واتبعت قيادة الدولة العباسية في تلك الفترة مبدأ العدالة والمساواة بين مختلف الشعوب في البلدان المفتوحة؛ فلم يكن هناك تمييز لعنصر على حساب عنصر، حتى العرب؛ كانوا في ذات المراكز السياسية والإدارية بذات المستوى الذي كان به أهل بلاد الرافدين والفُرْس والأتراك السلاجقة، وغيرهم.
كما شمل ذلك، الأقليات غير المسلمة التي كانت موجودة في بعض المناطق، مثل المسيحيين في مصر؛ فكانت العدالة معهم أحد أهم عناصر إحداث حالة من الاستقرار الاجتماعي الداخلي، قاد إلى استقرار داخلي، وحقق مناعة الدولة في مواجهة خصومها المتربصين في أوروبا على وجه الخصوص، ومنعت التدخلات الخارجية باسم حماية المسيحيين في المشرق أو ما شابه، كما حدث في فترات الحملات الصليبية بعد ضعف دولة الخلافة، في القرن الحادي عشر الميلادي.
في الجانب الثقافي والمعرفي؛ اهتمت الدولة العباسية بنشر التنوير، وهي من أهم عوامل الاستقرار الداخلي وتحقيق السلم والأمن المجتمعيَّيْن؛ فكان في خراسان وحدها ستة جامعات، وكانت مكتبة بغداد المركزية، تفوق في محتواها من الكتب، محتوى مكتبات قوى كبرى حاليًا، مثل مكتبة برلين، ومكتبة الفاتيكان، وحتى ما يوجد في مكتبة الكونجرس في الوقت الراهن.
اهتمت الدولة العباسية بنشر التنوير، وهي من أهم عوامل الاستقرار الداخلي وتحقيق السلم والأمن المجتمعيَّيْن
ويقول مؤنس مفتاح في ذلك، إن الفتوحات الإسلامية أحدث تطورات جديدة في المنطقة تمثلت في توحيد مصر والشام والهلال الخصيب وفارس والهند من الناحية السياسية والإدارية والاقتصادية؛ إذ من المعروف أن التسيير والإدارة كان يتم من المراكز الكبرى سواء في بلاد العراق أو الشام أو فارس، وهو ما قاد إلى اندثار الحواجز الاقتصادية والثقافية التي كانت تفصل العالم، فتوحد بذلك الشرق والغرب.
ومن بين نتائج ذلك كان دخول صناعة الورق إلى العالم الإسلامي على يد الأسرى الصينيين، فحل الورق محل المواد الكتابية الأخرى، وخاصة في الدولة العباسية الاولى، وهو ما أدى إلى نشوء حركة كتابة وترجمة واسعة، مثلما تم وقت تولي جعفر البرمكي، وزير هارون الرشيد.
والشاهد أن المسلمين استطاعوا إقامة منظومة حضارية، فرضت حالة السلام العالمي التي يطمح إليها البشر منذ بدء الخليقة، ولم تفلح فيها قوى عظمى ظهرت في عالمنا المعاصر بكل ما فيه من إنجازات في المجالات العلمية، والتشريع، والاقتصاد، وغير ذلك من المجالات، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها، التي تواجه الكثير من التحديات التي حالت دون انفرادها بالقرار العالمي، برغم كل إمكانياتها.
وفي الأخير، فإن الدولة العباسية الأولى قدمت نموذجًا مهمًّا في إقامة السلام العالمي، بناء على التصور الإسلامي في العدالة في التعامل مع الشعوب الأخرى، ونشر التنوير الذي جعلها مركز استقطاب، لا مركز حرب وعداء.
وبالرغم من أن هذا النموذج لم يطُل كثيرًا؛ إلا أنه من الأهمية بمكان العمل على دراسته؛ إنصافًا للدولة المسلمة كنموذج من خلال تطبيق حقيقي ردًّا على كثير من التشويش الحالي، ومحاولة خلق مفاهيمنا الخاصة كمسلمين في هذا الصدد، بعيدًا عن التاريخ كما كتبه الغرب!