يغيب كثير من أقاربنا أو معارفنا ثم يظهرون لاحقًا، فتجد أحدهم اشتغل في مركز مرموق، وآخر صار له مشروعه الخاص، والثالث اشترى أرضًا وبنى عليها. وفي المقابل تجد من لم يجد وظيفة بعد، أو يعاني من أزمة في دفع إيجار شقة، أو عدم القدرة على الزواج أو السفر! وكثيرًا ما كنت أسأل نفسي عن سر هذا التناقض الموجود في أسرة واحدة، وأحيانًا بين نفس المجموعة ممن يصفون أنفسهم بالأصدقاء المقربين. وأتساءل أكثر عن التقارب أو القرب الذي لا يكون دافعًا قويًا للناس كفاية، بحيث يدلوا -ولو تنويهًا- على باب من أبواب الخير، من وظيفة، أو فرصة مشروع، أو استثمار، أو تعليم أو غيره! وحين تتبعت الأسباب والدوافع -أحيانًا بسؤال الناس أنفسهم، وأحيانًا أخرى من الاحتكاك بهم- توصلتُ إلى الأسباب الآتية، لعلنا بمعرفتها نتخلى عنها، ونصير أكثر إيجابية في العطاء:
الخوف من الحسد أو فقد ما نملك
فإذا كان الحال كذلك، فإن الحل لا يكمن في التكتم على فرص الخير التي نعرفها، وإنما بالإكثار من الرقية والاستعاذة . كما أنه لابد من تصحيح فهم الناس؛ لتيسير قضاء حوائجهم بعدم البوح عنها مطلقًا، فهذا قد يكون مقبولاً حين يكون الإنسان مقبلاً على أمر في فترة معينة يخصه لذاته، كالقبول في وظيفة معينة، أو إتمام زواج، أو تأكيد أوراق سفر. ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ألا نعلن لكل من هبّ ودبّ بكل خير، أو رزق يمن به الله علينا، في السياق الذي ذكرناه للتو. فيقول عليه الصلاة والسلام: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) [صححه الألباني]. فهنا لا بأس في الأمر ولا غضاضة فيه.
وإنما تقع المشكلة حين يتجاوز الأمر حد المعقول، وحد الخوف من الحسد، إلى درجة ضعف الإيمان بقدرة الله، وخشية أن يوقف حدوث الأمر، أو أن يستحوذ عليه غيرنا كفرصة عمل أو سفر أو غيرهما! فتراه يمتنع أن يقول لأصحابه -ممن يحملون نفس المؤهل أو يرغبون في نفس العمل- عن هذه الفرصة؛ خشية أن ينالها صاحبنا ولا ينالها هو! وتلك هي المرحلة الخطرة التي لا نود الوصول إليها بحال!
تقع المشكلة حين يتجاوز الأمر حد المعقول، وحد الخوف من الحسد، إلى درجة ضعف الإيمان بقدرة الله، وخشية أن يوقف حدوث الأمر، أو أن يستحوذ عليه غيرنا كفرصة عمل أو سفر أو غيرهما
فقد حدث مرة أن حكت إحداهن: أن زميلتها في العمل كانت لها جارة ترغب في الحصول على وظيفة عندهم في الشركة، فلما توفر مكان شاغر، ذكّرت صاحبةُ القصة زميلتَها في العمل بجارتها التي تريد الوظيفة، فما كان من هذه الزميلة إلا أن قالت: "لن أخبرها بشيء، أنحن نبحث عن الوظيفة، ثم نتقدم لها، ونتعب، ونجاهد، حتى نحصل عليها، ثم تريدين مني أن أرشِّح اسمها؛ لتأتي وتحصل عليها دون جهد أو معاناة!" فهذا الموقف لا يدل -فحسب- على الفهم الخاطئ للدين والرزق، بل هو كذلك يعكس علة من علل القلوب. وهو عدم رغبة الخير للناس، وميل البعض لجعل الجميع يمر بنفس المأساة والمعاناة التي مر بها هو!
الأنانية والمفاهيم الخاطئة وحجج أخرى
فللأسف كثير ما يعلّم الآباء الأبناء منذ صغرهم أن يهتموا بشؤونهم الخاصة فحسب، فنسمع عبارات كثيرة، مثل: "هذا لا يعنيك" أو "ما شأنك أنت!"، أو "المهم أن تحل مشكلتك الخاصة!"، ولا ريب أن عدم التدخل في شؤون الآخرين فضيلة أمرنا إسلامنا بها، ولكن هذا لا يعني أبداً عدم تمني الخير للناس، وتقديم المساعدة أو النصيحة متى لزم الأمر، واستشْعرْنا الفائدة. وللأسف تجد نفس هؤلاء الناس لا يتورعون عن الوقوع في الغيبة والنميمة، وليس فيها ما يرجى من النفع، علاوة على أن صاحبها يأثم، بينما الفاعل في الأول مأجور بإذن الله.
لا ريب أن عدم التدخل في شؤون الآخرين فضيلة أمرنا إسلامنا بها، ولكن هذا لا يعني أبدًا عدم تمني الخير للناس، وتقديم المساعدة أو النصيحة متى لزم الأمر
كذلك يأتي الكسل والنسيان والانشغال وافتراض عدم حاجة الطرف الآخر للأمر، وحجج أخرى لتختتم القائمة. فتجد من يقول: "والله نسيت!"، "لم يخطر في بالي أنك تريد!"، "أنت لم تخبرني!"، وتعليقاً على الأخيرة نقول: وكأن كل صاحب حاجة عليه أن يمشي بلوحة إعلانية يطلب فيها حاجته! فما المانع إذا وجد أحدهم فرصة خير من دورة تدريبية، أو وظيفة شاغرة، أو غيرها أن يخبر من يعرف!
فوسائل التواصل الآن سهّلت الكثير من الأمور، فلم نعد بحاجة لاتصالات هاتفية، أو مقابلات شخصية؛ لنخبر الناس بمعلومة ما. فلْنُعْلِم الجميع بأبواب الخير، وليلتحق من رغب بما يشاء، ويخرج صاحب الاقتراح بالأجر!