مع تلك الهجمة الشرسة على #حماس من البعض، والنقد المتحفظ من البعض الآخر، والشفقة الحذرة من آخرين، كان لا بد من التصدي لتلك التحفظات، وتوضيح بعض النقاط؛ لتتضح الرؤية كاملة، مع الأخذ في الاعتبار أنه من غير المقبول أن نضع تصرفات حماس وسياساتها -التي أراها من وجهة نظري سياسات عبقرية- للتحليل من أرض غير الأرض، وظروف مغايرة لما تمر به سائر بلاد العرب المنتهكة تحت احتلال جيوشها!
ومع اختلاف التاريخ والجغرافيا، إلا أنني أستطيع أن أقول بكل ثقة: إن حماس وقّعت -وبجدارة- صلح الحديبية، الذي حسبه معظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً مهيناً، أعطوا فيه الدنية من دينهم! بمن فيهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أعلن رفضه للصلح منذ توقيعه متسائلاً: "لم نعطي الدنية في ديننا يا رسول الله"، إذ إن البنود كلها –ظاهراً- ليست في صالح المسلمين وقضيتهم، وإنما هي مصنوعة؛ لعملية إذلال متعمدة لكل ما يمثلونه، وبثقة المؤمن الواثق بفعل قائده يقف أبو بكر ثابتاً مدافعاً عنها، ليس بشرح الفوائد التي قد تعود على الأمة الوليدة من كل بند من بنودها، ويدور عمر بين أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم:
-"يا أبا بكر ألسنا على الحق؟
-قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟
-قال: بلى، قال: أليس هو رسول الله؟
-قال: بلى.
-قال: ألسنا المسلمين؟
-قال: بلى.
-قال: أليسوا المشركين؟
-قال: بلى.
-قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟
-فقال أبو بكر: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ".(رواه البخاري ومسلم)
الخلاف بين المؤمنين وارد، والخلاف بين أصحاب الصف الواحد وارد، وعدم الفهم من قبل البعض -أيضاً- وارد، والاختلاف في الرأي لا يعني انقسام الصف المؤمن على نفسه، وإظهار العداء بين أفراده، ورفض الرأي الآخر جملة. وإنما استيعابه وتوضيح النقاط الملتبسة عليه، وترك الباقي للزمن ليثبت صحة القرارات.
الخلاف بين المؤمنين وارد، والخلاف بين أصحاب الصف الواحد وارد، وعدم الفهم من قبل البعض وارد، والاختلاف في الرأي لا يعني انقسام الصف على نفسه، ورفض الرأي الآخر جملة
وقد أثبت بالفعل أن صلح الحديبية فتح ونصر، كما جاء في كتاب الله العزيز، والقصص القرآني وأحداث السيرة النبوية لم تأت اعتباطاً، وليست مذكورة للتسلية، وإنما للعبرة والتعلم، وها هي حماس الصامدة اليوم تمارس اللعبة السياسية، بكل جدارة واقتدار، فرضت فيه إرادتها لمن يستطيع قراءة بواطن الأمور:
- استطاعت حماس أن تفرض الاعتراف بها رسمياً، ككيان موجه، وذو ثقل وقوة، لا يمكن أن تقوم لأي اتفاق دولي قائمة بدونه.
- تستطيع –كذلك- التفرغ لعملية الجهاد، وإعداد الجيش، بعدما أرغمت العالم على عدم التخلي عن رصاصة واحدة لها.
- فرض حالة من الرعب تجاهها؛ بدليل تأجيل عملية ضرب غزة حتى اليوم، والتي كان معداً لها منذ اللحظة الأولى للانقلاب المصري، بينما اليوم أصبح من الصعب مجرد التفكير في تلك الضربة.
- استطاعت حماس أن تكسب المزيد من التأييد الشعبي والدعم العالمي بالمساعدة في رفع الحظر عن الحياة في غزة بالتخلي عن حكمها، وليس التخلي عن الجهاد والثوابت التي تتأصل يوماً بعد يوم. وها هي تصريحات زعيمها تزلزل كيان العدو، وتجبره على الرضوخ لها، باعتراف كامل بأهليتها لإدارة عملية سياسية مكتملة الأركان، الفائز فيها هو الشعب الفلسطيني.
وقد يتساءل البعض: وما الذي يدفع تلك الدول للتوقيع على تلك الاتفاقية، إذا كان العائد على حماس والقضية الفلسطينية بهذا الحجم؟
والجواب: أننا نتفق -مبدئياً- على عمالة كل تلك الأنظمة، بل ونتفق على أنها في صهيونيتها تفوق صهيونية المغتصب في أرض فلسطين، وما يدفعها للوساطة والمساهمة باستماتة في إنجاح الاتفاق، ووضع اليد في يد من يعتبرونه العدو الأول لهم -هو العمل المخابراتي في المقام الأول.
ومع أنهم يدركون جيداً مكانة حماس، وقوة قادتها وحنكتهم سياسياً، إلا أنهم يحسبون أنهم قد يحصلون على أي معلومات تفيد العدو عن حجم القوة الحقيقية لحماس؛ تمهيداً لإعداد ضربة قوية لها، تكون موجهة بشكل صحيح، ومنذ سنوات والمخابرات المصرية تلعب ذلك الدور، منذ عهد مبارك واختطاف شاليط، إلا أنها فشلت مع حماس فشلاً ذريعاً في إدارة ذلك الملف.
على البكائين والخائفين على حماس يجب أن يوفروا ذلك البكاء لقضاياهم الشائكة، وملفاتهم المفتوحة بلا أمل في غلقها، وأن يتعلموا كيفية إدارة الملفات السياسية، واللعب مع العالم بمستوى يليق بمن يحمل قضية بهذا الحجم
خلاصة القول أن البكائين والخائفين على حماس يجب أن يوفروا ذلك البكاء لقضاياهم الشائكة، وملفاتهم المفتوحة بلا أمل في غلقها، وأن يتعلموا كيفية إدارة الملفات السياسية، واللعب مع العالم بمستوى يليق بمن يحمل قضية بهذا الحجم.
أسأل الله التوفيق لقادة تلك الحركة المباركة، وأن يصرف عنهم كيد الكائدين.