قد يعجب البعض حين نتحدث عن عملية تربوية لها أصول وقواعد وثوابت في السنة الأولى لميلاد الطفل، فأي تربية تلك لوليد لم يتعد الأشهر الأولى من حياته! وهو لا يعي ما حوله، ولا يكاد يتعرف على من حوله إلا باستخدام حواسه الغريزية كحاسة الشم التي يتعرف فيها على الأم في الأسابيع الأولى لميلاده!
في حين أن الإسلام أولى عملية إعداد النشء والتربية اهتماماً خاصاً، يسبق عملية الزواج ذاتها، وذلك بحسن اختيار الأم التي تقوم على عملية التربية في الأساس، وجعل الدين هو سبب الاختيار الأول، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ). ومعنى الحديث -كما قال النووي رحمه الله في شرح مسلم-:
"الصحيح في معنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، لا أنه أمر بذلك! وفي هذا الحديث الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم".
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي:
"قال القاضي رحمه الله: من عادة الناس أن يرغبوا في النساء، ويختاروهن لإحدى الخصال، واللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون، لا سيما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره".
حقوق الجنين في الإسلام
فالزواج ليس نزهة وينتهي الأمر، واختيار الزوجة أمر لا يترتب خطره على الزوج وحده، وإنما يمتد لأجيال تأتي من نسلها، وتتأثر بمجموعة القيم التي تبثها في صدور تلك الذرية، فإن كانت امرأة صالحة صلحت الذرية، وإن كانت غير ذلك فسدت بفسادها.
الزواج ليس نزهة وينتهي الأمر، واختيار الزوجة أمر لا يترتب خطره على الزوج وحده، وإنما يمتد لأجيال تأتي من نسلها، وتتأثر بمجموعة القيم التي تبثها في صدور تلك الذرية
والتربية حق للطفل، وحق للمجتمع، وحق للأمة يقع تبعته على الأبوين كلاهما، ومنذ اللحظة الأولى يضع الشرع ضوابط؛ ليذكرهما أن هناك كائناً ثالثاً بينهما، يفرض عليهما نوعاً جديداً من العبادة لا تجوز إلا في ذلك الموضع؛ ليعلما أن الإنسان إذا قصّر في حق الله بذاته، فليس له الحق هنا أن ينسى؛ لأن هناك "كياناً إنسانياً" له حق الذكر لله عز وجل.
فعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما لو أنَّ أحدهم يقول حين يأتي أهله باسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبداً).[رواه البخاري ومسلم].
وذلك هو الحق الثاني للطفل المسلم بعد اختيار الأم الصالحة، يناله قبل أن يكون نطفة أو جنيناً.
أباح الشرع الإفطار في رمضان للأم الحامل إذا خشيت على جنينها، على أن تقضي لاحقاً؛ حفاظاً على حياة الجنين، وحرّم عملية الإجهاض، واعتبرها قتلاً، وعلى المرأة في هذه الحالة أن تخرج الدية، وهي "عشر دية المرأة" إن هي أقدمت على تلك الجريمة، وأزهقت نفساً خلقها الله في أحشائها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إن امرأتين من هذيل، رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أَمَة".[رواه البخاري ومسلم].
تلك مجموعة الحقوق المفروضة للجنين في الإسلام، وحين يستشعر الأبوان أن هناك حقوقاً لجنين لم يأتِ للحياة بعد، فتلك تهيئة ربانية لمجموعة الحقوق المفروضة عليهما حين يأتي للحياة.
منذ الميلاد وحتى نهاية الحولين
كان المسلمون الأوائل يهنئون بعضهم البعض، ويبشرون بعضهم بالمولود، وذلك توجيه رباني:}فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى{.[آل عمران:39] ومن حق الإنسان أن يكون أول كلام يسمعه حين يخرج إلى الدنيا هو اسم الله عز وجل، فيؤذن للطفل في أذنه اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى، وذلك بمثابة تلقينه للشهادة، وإعلان عن نفس جديدة موحدة تسبح بحمد الله. ثم بعد ذلك يحنك الطفل، وذلك بمضغ تمرة ثم يؤخذ منها مضغة صغيرة ويدلك بها فم الطفل؛ ليتهيأ لعميلة الرضاعة.
ومن الحقوق كذلك للمولود اختيار اسم طيب له، والبعض من باب التفكه أو الطيرة يطلقون بعض الأسماء التي تدعو للسخرية على الأطفال، ظناً أنهم بذلك يحفظونهم من العين وغيرها، وتلك عادة جاهلية يجب أن يتورع عنها المسلم، ويحسن اختيار الاسم للمولود. عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله -عز وجل- عبد الله وعبد الرحمن) [رواه مسلم]. وعنه رضي الله عنه: "أن ابنة لعمر كان يقال لها عاصية، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة" [رواه مسلم].
ومن الواجبات التي يجب أن ننبه إليها، هي عدم التفريق بين الذكر والأنثى في البشارة، والفرحة، وتهيئة الأجواء لاستقبال المولود، فقد وصل الأمر بالمسلمين أن يكرهوا أن يولد لأحدهم أنثى تشبهاً بعادات الجاهلية، وقد أتى الإسلام؛ ليحرر العقل، ويحرر الروح، ويساوي بين الإنسان، فلا أفضلية لذكر على أنثى، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالمولود هو هبة من الله تعالى، لا يصح أن نتعالى عليه به، أو نناقشه فيه، أو نفرض عليه سبحانه اختياراتنا. ومن حق المولود -سواء كان ذكراً أو أنثى- العقيقة، بذبح شاتين للذكر، وشاة للأنثى، والختان للذكر في اليوم السابع، أو مضاعفاته إن كان ضعيفاً.
من الواجبات التي يجب أن ننبه إليها، هي عدم التفريق بين الذكر والأنثى في البشارة، والفرحة، وتهيئة الأجواء لاستقبال المولود
ومن الحقوق الواجبة على المولود في الإسلام، حق الرضاعة حولين كاملين لمن أراد أن يتمها، قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف{.[البقرة، آية:233].
فعليه أن يوفر العائد اللازم؛ لإعالة زوجته بالقدر الذي يعطيها القدرة على إرضاع وليدها، والطفل في فترة حياته الأولى لا يحتاج أكثر من الرعاية اللازمة، والحب، والاحتواء والأمان، وكل تلك الحقوق لن يجدها إلا في كنف الأم، ومن الملاحظ أن الظروف الاقتصادية في عالمنا العربي أجبرت المرأة على الخروج؛ مشاركةً لزوجها في القيام بالأمور المادية، مما ترك أكبر الأثر في نفوس النشء التي تضطر للذهاب به لدور الحضانة البديلة عن الأم، منذ شهره الثالث، وأرى في ذلك جريمة كبرى في حق مستقبل هذا الإنسان الوافد، وحين تواجه الزوجين بحاجة الابن لوجود أمه لا غيرها في تلك الفترة، يواجهونك بالاحتياجات وضيق اليد، في الوقت الذي تكون فيه احتياجات الطفل في أقل معدلاتها، فهي احتياجات إنسانية لا مادية، عاطفية لا تعتمد على المال، بل إن خروج المرأة للعمل وتركها لابنها في تلك الدور يعرضه لمزيد من الحاجة إلى الإنفاق على صحته، التي تكون مهددة دائماً؛ بسبب عدم تلقيه العناية الكافية، واضطرار الأم لحمله والخروج به في ظروف الطقس المختلفة والأجواء غير المهيأة، فإذا بها تنفق أكثر من دخلها عليه عند الأطباء، وتجار الألبان الاصطناعية؛ لتسد جوعه في الفترة التي تغيب عنه فيها.
إن الطفل خاصة في أول سنتين من حياته، يحتاج للتفرغ الكامل من أمه، وليس نصف أم تعود من عملها منهكة، يكون الهم الأكبر لها تنويم الطفل؛ كي تستطيع أن تقوم بما عليها من مهام غيره في بيتها المكدس بالأعمال. إن على الأبوين أن يوازنا في المصالح بين دخل الأم، وبين مستقبل ابنهما الذي يعتمد اعتماداً كلياً على وجودها، وعلى أجهزة الدول المسلمة والأنظمة العربية أن تراعي في قوانينها الخاصة بعمل النساء، تلك الفترة الهامة في حياة أطفالنا.
إن الطفل خاصة في أول سنتين من حياته، يحتاج للتفرغ الكامل من أمه، وليس نصف أم تعود من عملها منهكة، يكون الهم الأكبر لها تنويم الطفل؛ كي تستطيع أن تقوم بما عليها من مهام غيره في بيتها المكدس بالأعمال
إن كل سلوك لنا في تلك المرحلة من عمر أبنائنا هو بمثابة عملية تربية نغرسها فيهم دون شعور منا، حتى سلوك الأم العائدة من عملها غاضبة أو متعبة يعود سلباً على الأطفال، فنحصد بعد ذلك الطفل العصبي، أو الطفل المنطوي، فأرجو الانتباه لتلك القضية الخطيرة.