تؤكد التصرفات المحمومة لحكومة نتنياهو عظم المأزق الذي تسبب به انتصار إرادة المقدسيين على الإجراءات التهويدية التي أريد من خلالها بسط السيادة الصهيونية على المسجد الأقصى وإقصاء المؤسسات الإسلامية وإبعادها بالكامل عنه، وسلخ المسجد الأقصى عن البلدة القديمة تمهيداً لإحداث تغييرات دراماتيكية كبيرة وغير مسبوقة فيه قد تصل إلى تغيير معالمه وصولاً إلى مصادرته بالكامل.
تراجعت حكومة العدو أمام الوقفة الأسطورية للمرابطين وثباتهم العجيب رغم الغياب شبه الكلي لأي دعم عربي أو إسلامي مباشر، غير أن ذلك التراجع التكتيكي اقتضته سيرورة الأحداث وتصاعدها وتخطيها خطوطاً حمراء كان يمكن أن تتسبب فيما لا تحمد عقباه على المدى البعيد بالنسبة لأطماع بني صهيون ومخططاتهم الشيطانية.
كان متوقعاً من نتنياهو رداً للاعتبار ومداراة لعجزه وفشله أن يلجأ إلى اتخاذ عدة إجراءات كيدية بحق المقدسيين عامة والناشطين الذين كانت بصماتهم واضحة في أحداث الأقصى خاصة.
هذه الإجراءات تم اتخاذها بطريقة حذرة كي لا تتسبب في إعادة الزخم الشعبي الجماهيري وهو ما لا يرغب به الصهاينة بعد أن كادت الأمور أن تخرج عن السيطرة، ولذلك فقد جاء بعضها متباعداً عن الآخر ومتزامناً مع بعض التسهيلات تغطية وصرفاً للأنظار عنها.
كان اعتقال شيخ الأقصى رائد صلاح من أوائل الإجراءات التي أعقبت انتصار الأقصى بتهمٍ جاهزة تتعلق بالتحريض وانتهاك القوانين وإثارة الكراهية، وقد ادعت شرطة الاحتلال في حينها أنه تم توقيف الشيخ صلاح بتهمة التحريض لإلقائه خطابا أشاد فيه بالعملية التي نفذها الشهداء من آل "جبارين" من مدينة "أم الفحم" منتصف تموز "يوليو" في المسجد الأقصى، ومع أنه لم يكن الاعتقال الأول للشيخ في سجون الاحتلال إلا أن جرعة الاستفزاز فيه جاءت أعلى من سابقاتها فقد ذكر خلال محاكمته عن ظروف اعتقاله، حيث وصفها بـ”السيئة للغاية”، كاشفاً أنه معتقل (داخل مرحاض أنام وأصلي داخله ويراقبونني عبر الكاميرات على مدار الساعة) على حد وصفه وأن مكان احتجازه في سجن الشارون لا يصلح حتى لإيواء الحيوانات. وإمعاناً في التشديد عليه فقد رفضت محكمة العدو المركزية في مدينة حيفا المحتلة الاستئناف الذي قدمه فريق محامي الدفاع عن الشيخ رائد صلاح ضد قرار اعتقاله، ولا يتضح إلى أي مدى سيمضى العدو في معاقبته هو وكل من ساهم ويساهم في الدفاع عن المسجد الأقصى وتقويض المخططات الصهيونية الرامية إلى تهويده ومصادرته.
الإجراء الآخر كان التعامل مع المرابطات اللاتي كان لهنّ أبلغ الأثر في إنجاح غضبة الأقصى ضد البوابات الإلكترونية والإجراءات التهويدية، ومنهنّ المرابطتين خديجة خويص وهنادي الحلواني، وقد نال منهما البطش الصهيوني باعتقالهما عقب ذلك الانتصار المبارك ودخولهما للمسجد الأقصى، رغم قرار بمنعهما ووضعهما على لائحة "سوداء" والتي تعارف عليها المقدسيون باسم القائمة الذهبية للمرابطات المبعدات عن المسجد الأقصى. جاء الاعتقال هذه المرة مقروناً بتهمة العضوية في تنظيم "شباب الأقصى" الذي زعمت نيابة الاحتلال بأن له "نشاطات متواصلة، وأن أعضاءه مسؤولون عن التخطيط للتصدي للمستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى، وتنظيم الاعتكاف داخل المصلى القبلي خلال اقتحامات المستوطنين المتكررة للمسجد، بالإضافة إلى تأسيسهم مجموعة على الـ"واتساب" لتبادل المعلومات". مع ادعاء شبهة تلقي أعضاء التنظيم أموالاً من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ونشر منشورات دعم وتأييد للتنظيم عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى شاكلة الشيخ رائد صلاح فقد رافق اعتقالهما أساليب إذلال ممنهجة مارسها الاحتلال الصهيوني بحقهما، هما والمرابطة سحر النتشة، ويأتي ذلك في محاولة لكسر إرادتهنّ، وإرسال رسالة تحذيرية للمقدسيات ألا يقتفين أثرهن أو يسرن على دربهن، ومن ذلك ما حدث مع المرابطة خديجة خويص التي احتجزت في زنزانة انفرادية ضيقة تسيل فيها المياه العادمة، ما اضطرها للصلاة وهي واقفة. كما تمت مصادرة جلبابها وحجابها في سابقة خطيرة لها دلالات عميقة لتوجيه إهانة عميقة ومؤثرة للمرابطات. كما أن الإفراج عنهن اقترن بشروط قاسية جداً كان منها تحويلهما للحبس المنزلي مدة 14 يوما، والإبعاد عن المسجد الأقصى لشهر، ودفع كفالة مالية بقيمة خمسة آلاف شيكل، إضافة لمنعهمها من السفر مدة ستة أشهر، وكذلك المنع من دخول الضفة الغربية لنفس المدة.
ومن قبلهم جميعاً جاء اعتقال النائب المقدسي الشيخ محمد أبو طير في منتصف شهر آب "أغسطس" الماضي عقب الانتصار المقدسي المهيب، ومعروف أن الشيخ أبو طير قد قضى من عمره في سجون الاحتلال خمسة وثلاثين عامًّا متفرقة على عدد من الاعتقالات بدأت من العام 1974.
إنني أكاد أجزم بأن تلك الاعتقالات وما رافقها من تنكيل وإساءة، إنما تهدف إلى تفريغ القدس من الناشطين لإضعاف أي ردّة فعل محتملة على إجراءات تهويدية مقبلة كي لا يتكرر ذلك المشهد الفريد الذي أعقب اعتصامات باب الأسباط وباب المجلس بالدخول المدوي للمسجد الأقصى عبر باب حطة. وقد بدأت إرهاصاتها بقيام شرطة الاحتلال بتركيب كاميرات مراقبة جديدة عند مداخل الأقصى، وذلك بعد ثلاثة شهور من حراك المقدسيين حسب ما كشفته القناة العاشرة لتلفزيون العدو يوم الثلاثاء السابع من شهر نوفمبر الحالي.
وبحسب تلك القناة، فإنه قد تم نصب كاميرات مراقبة عند جميع مداخل الأقصى "المخصصة للمصلين المسلمين"، باستثناء باب الأسباط بناء على توصيات من وزير الأمن الداخلي للكيان الصهيوني، غلعاد إردان، ووصفت الكاميرات بأنها أكثر تطوراً من تلك التي أجبر الاحتلال على إزالتها في أيلول/ تموز الماضي. كما نقلت القناة العاشرة عن مسؤول كبير في الأوقاف الإسلامية إن "أحدا لم يبلغنا بأنه تم نصب الكاميرات، تم تركيبها في صمت تام".
إنها سياسة خبيثة تحتاج إلى تضافر القوى لإفشال أهدافها ومراميها وذلك من خلال تصعيد الفعاليات ضد الاعتقالات، وتوسيع دائرة التضامن مع المعتقلين على غرار "الحملة العالمية لنصرة الشيخ رائد صلاح" التي أطلقها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في مؤتمر صحفي بإسطنبول في السادس من شهر نوفمبر وحتى الثاني عشر منه وحملت وسم #كلنا_شيخ_الأقصى. وربط ذلك بالتلويح بتكرار تجربة اعتصامات باب الأسباط حيال أي خطوة تهويدية استفزازية، والعمل على ترسيخ الرباط في المسجد الأقصى بشكل دائم لا استثنائي.