يُعتبر عبد الرحمن بن خلدون، أول من تناول قضيتَيْ العمران والحضارة، كظاهرتَيْن بشريتَيْن بشكل متكامل، وتأثر في تقديم قراءاته حولها بالبيئة التي كانت محيطة به، سواء في العالم العربي والإسلامي، أو على مستوى العالم القديم ككل، في القرن الرابع عشر الميلادي.
ومن بين أهم مباحث علم العمران والاجتماع السياسي والإنساني كما قدمها ابن خلدون، قضية المدنية والمدينية، وكان أهم مَن تناولها في عصرنا الحالي، ولاسيما في صدد الطابع المديني للإسلام، هو المفكر الجزائري الأصل، مالك بن نبي، والمفكر البحريني، محمد جابر الأنصاري.
ولعل أهمية مقارنة أفكار بن نبي والأنصاري تكمن في أن كليهما يمثل مدرسة فكرية مختلفة؛ حيث بن نبي من مدرسة العقل الحديث، والذي ينطلق من منطلقات إسلامية، بينما الأنصاري أقرب إلى الأفكار ذات الطابع المدني القريبة من العلمانية، وبالرغم من ذلك التباين؛ فقد اتفقا على أن المدنية والمدينية بمعنى التحضُّر والحَضَر، هي من السمات الأصيلة في الإسلام.
ولعل أهمية إبراز ذلك الطابع في الإسلام، من بين أهم واجبات الوقت أمام كل العاملين في حقل البحث والفكر الإسلاميَّيْن؛ حيث تم تشويه الإسلام وحضارته بالكامل، من خلال مقولات وممارسات ساهمت فيها بعض الجماعات التي يتم تصنيفها بشكل خاطئ، كجماعات جهادية.
لقد تم تشويه الإسلام وحضارته بالكامل، من خلال مقولات وممارسات ساهمت فيها بعض الجماعات التي يتم تصنيفها بشكل خاطئ، كجماعات جهادية
وبدلاً من الطابع المديني الحضاري للإسلام – كما أكدت عليه حضارة أكثر من 1400 عام، وكما سوف نرى في مقولات أساسية من السُّنَّة النبوية الشريفة – بات الإسلام ملتصقًا بعبارات على غرار "صناعة التوحُّش"، وبدلاً من الحواضر الكبرى التي أقامتها دول المسلمين في الأندلس والمشرق العربي والإسلامي، وكانت منارات للعلم والمدنية للعالم بأسره؛ صارت صور الخراب والدمار الواقع في مناطق "الإمارات الإسلامية" في دول عربية عدة؛ هي صنو "الوجود الإسلامي".
وهو ما يُعتبر أهم عائق أمام المشروع الحضاري الإسلامي للانتشار، وتحقيق الخلاص للإنسانية كافة من خلال قواعده العادلة والسمحة في صورتها النقية كما أنزلها الله تعالى حقًّا.
تُعتبر المدنية والمدينية صنو الحضارة بينما أقرب مصطلح يعبر عن المدينية هو الحضر بالمعنى الحديث كما تقدَّم – إحدى أركان الدولة الإسلامية، ولا يستقيم العمران البشري من دونها، ويعتبر الإسلام – من خلال أدلة شرعية سوف نسوقها – أن التراجُع عن حالة العمران والتمدُّن، بمثابة خروج عن الجماعة، وخروج عن الدين.
فالإسلام حرَّم على العرب المسلمين من أهل الحَضَر، العودة إلى البادية للعيش بها بصفة دائمة مع الأعراب، واعتبر ذلك كبيرة من الكبائر يُعاقَب مرتكبها، أي أن العودة من التحضر إلى البداوة، جُرم أو كبيرة في مستوى العودة عن الإسلام والإيمان، إلى الشرك والكفر.
وفي دراسة له منشورة على موقع "صيد الفوائد"، يقول إحسان العتيبي؛ إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يعدًّون الراجع للبادية مرتدًا عن هجرته؛ أي: عن إسلامه، والمقصود أنه في حكم المرتد لا أنه كذلك حقيقةً، فعبَّر بعضهم بالردة عن الهجرة وعبَّر آخرون بالردة عن الإسلام؛ لأن الهجرة تعني الهجرة بالإسلام.
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يعدًّون الراجع للبادية مرتدًا عن هجرته؛ أي: عن إسلامه، والمقصود أنه في حكم المرتد لا أنه كذلك حقيقةً
ويقول محمد جابر الأنصاري في كتابه "مراجعات في الفكر القومي": "هنا يكمن المغزى الاجتماعي المتميز والفريد لهذا الموقف الإسلامي. يقول ابن منظور في لسان العرب: (في الحديث (النبوي): ثلاث من الكبائر، منها التعرُّب بعد الهجرة: هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجرًا، وكأن من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر؛ يعدونه كالمرتد".
وينقل عن ابن خلدون في "المقدمة"، قوله في هذه الجزئية: "كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرُّب، وهو سُكنى البادية؛ حيث لا تجب الهجرة".
ويقصد الأنصاري حديث سهل بن أبي حثمة عن أبيه "رَضِيَ اللهُ عنهما"، والذي قال فيه: "سمعت النَّبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) على المنبر يقول: اجتنبوا الكبائر السبع، فسكت الناس فلم يتكلم أحدٌ فقال النَّبيُّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم): ألا تسألوني عنهن؟ الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرُّب بعد الهجرة" [أخرجه الطبراني في "الكبير" ( 6/ 103) وحسَّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2244)]، وبوَّب عليه: باب التعرُّب بعد الهجرة من الكبائر، ونحوه: التغرُّب].
ولكنَّا لم نجد لفظة "ثلاثً من الكبائر"، وإنما هي سبعة بنص هذا الحديث.
ولا نزال في هذه النقطة مع الأنصاري على أهمية الطرح الذي قدمه في هذا الجانب، والذي يقارب أفكار محمد عبده في كتابه الشهير "الإسلام بين العلم والمدنية"؛ فيقول: "نحن لو أخذنا الأمر من الناحية الفقهية النظرية البحتة لما استدعى أن نربط بين العودة إلى البادية والارتداد عن الإسلام، فمن أقرَّ بالشهادتَيْن واعتنق الإسلام، عُدَّ مسلمًا أينما كان، وحيثما انتقل من البادية إلى الحضر، أو من المدينة إلى القرية، أو من الجبل إلى السهل، فأرض الله واسعة، وهي مفتوحة للمسلم، يضرب فيها، وينتقل محتفظًا بإسلامه وعقيدته، ما دام لم يكفر أو يشرك أو يرتد، هذا من الناحية النظرية، المبدئية العقيدية".
ويستدرك أنه نرى أن الإسلام يضع استثناءً واحدًا مهمًّا لهذه القاعدة المبدئية الشمولية، وهو – تحديدًا – عودة العربي المهاجِر، أي ساكن الحضر، إلى وضع البداوة مع الأعراب، فهذه كبيرة من الكبائر، وصاحبها كالمرتد، وإن احتفظ بدينه.
ويؤكد أنه بالرغم من أنه يكون تحولاً في المستوى الاجتماعي الحضاري، وليس في الوضع العقائدي للإنسان؛ فإنه مع ذلك يراه الإسلام مسًّا خطيرًا بالعقيدة.
وهذا يقودنا إلى الاستنتاج أن الإسلام يُعتبر عقيدة مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بوضع حضاري اجتماعي متقدم، هو وضع التحضر، بحيث لو انتفى هذا الوضع، وتم التراجع عنه إلى مستوى البداوة؛ تعرضت العقيدة ذاتها للخطر، واعتُبِرَ القائم بهذا الفعل مرتدًا عن عقيدته، مع ارتداده إلى الصحراء عن تحضره، حتى وإن لم يعلن خروجه عن الإسلام.
والحضر وقت أن قال الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، حديثه المتقدم، كان دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وعندما نهضت دولة الخلافة، كان الخلفاء والولاة المسلمون حريصون على تطبيق هذا الهدي النبوي على الرعية، ففي صحيح البُخاري، أن الحجَّاج لما بلغه أن سَلَمة بن الأكوع قد خرج إلى سُكنى البادية؛ قال له مستنكرًا: "ارتددت على عقبيك؟ تعرَّبت؟ - أي صرت في الأعراب – فقال له: لا، ولكن رسول الله أذن لي في البدو" [الصحيح باب التعرُّب بعد الهجرة من الكبائر].
ومن الملاحظ اقتراب مصطلح "الحضر" المنحوت من أصل لغوي هو "الحضارة" من مصطلح "المدينية" في المقولات التأسيسية التي نقلها الأنصاري عن دولة النبوة ودولة الخلفاء الراشدين المهديين في هذا الإطار.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذا الربط واضح في تفكير علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين، ومن بينهم ابن خلدون ومالك بن نبي وسيد قطب، عند حديثهم عن مصطلحات "الحضارة" و"المدنية" و"المدينية".
وهناك في هذا الإطار، نجد ضرورة للتوقف عند مقولات مالك بن نبي الأساسية في هذا الأمر؛ لأنها تمس على خصوصيتها وأهميتها، ذلك الجانب الذي نحاول تأصيله في هذا الموضع، وهو أن الحَضَر والمدينية، من الاشتراطات المهمة التي وضعها الإسلام لصيرورات العمران البشري، وقواعد راسخات لتطور دولة الإسلام.
فمالك بن نبي ذهب في هذا إلى القول بأن الحضارة والمدينية في الإسلام، بمثابة فريضة، وحاول تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "فقه" التمدين والتحضُّر في المجتمعات المسلمة، وذلك من خلال مجموعة من الكتابات التي حاول التأسيس أو التأصيل لذلك فيها، من خلال النصوص، ومن خلال الأدلة العقلية الأخرى، وخصوصًا كتبه: "شروط النهضة"، "الظاهرة القرآنية"، "مشكلة الثقافة"، "مستقبل الإسلام"، و"مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي".
وعناصر الحضارة عند مالك بن نبي، هي: الإنسان زائد التراب زائد عنصر الوقت، ويصبغ ذلك بصبغة دينية، على ذات النحو الذي نحاه من سبقه من المفكرين الإسلاميين المعاصرين، مثل قطب والمودودي، فيؤكد أن هناك مُركَّب لتوحيد هذه العناصر الثلاث، وهو الدين أو الفكرة الدينية.
فكل الشعوب تمتلك مقومات الحضارة، ولكن ذلك يتطلب توافر مُركَّب تاريخي، يحوِّل هذه المكونات إلى حضارة تأخذ الشكل التراكمي المطلوب، الذي يؤسس مجتمعًا متطوِّرًا وقابلاً للاستمرار والتراكم، ويستطيع استغلال مكوناته فيما يخدم نفسه والإنسانية، وهو الدين عند مالك بن نبي.
كل الشعوب تمتلك مقومات الحضارة، ولكن ذلك يتطلب توافر مُركَّب تاريخي، يحوِّل هذه المكونات إلى حضارة تأخذ الشكل التراكمي المطلوب، الذي يؤسس مجتمعًا متطوِّرًا وقابلاً للاستمرار والتراكم، ويستطيع استغلال مكوناته فيما يخدم نفسه والإنسانية، وهو الدين عند مالك بن نبي
ويقول في كتابه "شروط النهضة": "فلا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعةً ومنهاجًا؛ إذ هي- على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية".
ولكنه يشدد في الإطار على أهمية عنصر الإنسان في تكوين هذه الحضارة، ويؤكد في دراسته لعوامل انتهاء الحضارة الإسلامية، على أنها انتهت عندما انتهت قيمة الإنسان فيها.
ويشير إلى أن التعايش السلمي – وهو من أهم سمات المدينية في عالمنا المعاصر، في الفلسفات والأفكار الغربية – سِمة مميزة للمجتمعات البشرية ذات الطابع المديني، ويطور أعضاؤه وعيًا مشتركًا، ويتشاركون همومًا واحدة، ويكون لهم ثقافة واحدة، أو ثقافات بينها قواسم مشتركة، تشكل هوية وشكل هذا المجتمع.
ويرى، خاصة في كتابَيْه "القضايا الكبرى"، و"شروط النهضة"، أن المجتمع يكون متحضرًا عندما تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في هذا المجتمع، ويكون الإنسان موضعَ تكريم، بينما يكون هذا المجتمع متخلِّفًا إذا ما كان الحال العكس.
هذه هي صورة شديدة التركيز لمفهوم المدنية المدينية في الإسلام، وموضعهما في قلب حضارة هذا الدين، ولعل – كما قلنا – فإن واجب الوقت هو السعي إلى نشرها ونشر الأدبيات التي تعبر عنها في مواجهة "صناعة التوحُّش" وكل "صناعة توحُّش"!