غدونا في عصر نسمع فيه الكثير عن الحريات، وربما من أبرزها على المستوى العالمي: "حرية التعبير عن الرأي"، وعلى المستوى الشخصي: "حرية الاختيار وصنع القرار". وبإلقاء الضوء على حرية الاختيار، نرى أن الأمر -في كثير من الأحيان- لم يعد خاصاً ولا مقتصراً على المتأثر بالقرار وتبعاته، بل صار الآباء والأقارب، وربما زملاء الإنسان ومعارفه يتدخلون، لاسيما حين يتعلق الأمر بالتخصصات الدراسية ودخول الجامعة، أو الالتحاق بوظيفة معينة أو الزواج أوغيرها. والنية في معظم الأحيان حسنة وغرضها عمل ما فيه مصلحة الطرف المعني، ولكن هذا لا يعني أن التدخل -أحياناً ولو بنية حسنة- يضر الإنسان صانع القرار، ولا يعد من حق المتدخِّل في شأنه، وفيما يتعلق بهذا الأمر سنعرض لعدة نقاط بغرض إزالة ما التُبس:
الفرق بين إعطاء المشورة وصنع القرار:
إن طلب المشورة والنصيحة من الأمور الجوهرية قبل اتخاذ أي قرار مصيري، أو بدء خطوة جديدة. ولكن لا يجب أبداً الخلط بين إعطاء المشورة والتدخل في صنع القرار، فصاحب الشأن فحسب هو من عليه صنع القرار . وللأسف يخلط الكثير من الآباء والأقارب بين المفهومين، فنجدهم يتدخلون في أمر صناعة القرار، ومن ثم يقررون التخصص الذي سيدرسه ولدهم، أو الكلية التي سيدخلها، والوظيفة التي سيعمل بها، أو بمن ستتزوج بنتهم، أو كيف ستقضي حياتها بعد التخرج إن لم تتزوج! كل هذه الأمور تعتبر قرارات شخصية بحتة، ومع ذلك كثيراً ما نلاحظ في المجتمع أنه يتم اتخاذها بصورة جماعية، والأنكى من هذا أن المعنيَّ بالأمر قد لا يُؤخذ برأيه على الإطلاق.
الحدود الشرعية:
التدخل في شؤون الآخرين وفرض آرائنا عليهم لا ريب من الأمور التي نُهينا عنها؛ لأنها ليست من شأننا بالكلية من ناحية، ولما قد تسبب من ضرر على الآخرين من ناحية أخرى، وقد يبرر كثير من الآباء تدخلهم بأنهم يقومون بما فيه صالح الأبناء. ورغم أنه لا شك عندنا في حسن نية غالبية الآباء، فحب أبنائهم ينغرس في داخلهم بالفطرة، ولكن وجهات النظر تختلف من جيل إلى آخر، وكذلك المصالح، علاوة على أن ما يراه أب كمصلحة لولده، ليس بالضرورة أن يَلقى ذات الصدى عند ولده! فالأبناء تتغير أهدافهم ونظرتهم للأمور والحياة بتغير الأجيال، وهذا أمر قد لا يتفهمه الآباء الذين نشأوا في جيل مغاير تماماً لجيل أبنائهم، لذا يكون من عدم الإنصاف أن يطالبوهم أن ينظروا للحياة من منظارهم هم!
فبعض الآباء قد يصرُّ على أبنائه مثلاً ليلتحقوا بكليات مرموقة لما لها من صيت، لكنها لا تتوافق مع طموحاتهم ورغباتهم وأهدافهم في الحياة. لذا فإن حرص بعض الآباء على تحقيق أحلامهم التي لم تسعفهم الظروف على تحقيقها من خلال أبنائهم، فيه ظلم بيّن لهؤلاء الأبناء، وفي النهاية الأبناء بشر كالآباء من حقهم أن يكون لهم فكرٌ متفرد، وهدف مميز وإن لم يتوافق مع الآباء. فلابد للآباء أن يتركوا مساحة للأبناء في اختيار ما يناسب حياتهم، خاصة وإن كان الأبناء هم من سيجنون الثمرة أو يدفعون الثمن !
لكن هذا لا يعفي الآباء من توجيه النصيحة، وبيان وجهة نظرهم، وإقناع أبنائهم بما استفادوه من خبرات الحياة، وتجارب السنين، لكن دون إجبار وإكراه.
أن يحرص بعض الآباء على تحقيق أحلامهم التي لم تسعفهم الظروف على تحقيقها من خلال أبنائهم، فيه ظلم بيّن لهؤلاء الأبناء
الإجبار على الزواج، كبت للحريات:
في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وعروضِ زواجٍ شحيحةٍ، نَلقى الكثير من الآباء الذين يجبرون بناتهم على الزواج، ويرهبونهن بفوات القطار إن ضيعت الفرص، دون مبرر، كما يرى كثير منهم في معظم الأحيان. فأن ترفض الفتاة لعدم وجود القبول، أو لخلل في صفات رأتها أساسية، يعتبر دلالاً زائدًا! كذلك هناك إجبار الفتاة على العمل، أو الجلوس في المنزل، أو إكمال تعليمها من عدمه. ونجد للأسف تدخل الأقارب بصورة غير مقبولة، وأحياناً برضا الأهل. وصحيح أن الأهل ينتابهم القلق أحياناً من وحدة الابنة بالذات، وعدم وجود عائل لها، أو أن تظل وحيدة دون زوج وأطفال إن كانت تعمل، ولكن هذا ليس مبرراً للزجّ بها في زواج لن يسعدها، ولن تحقق الهدف من الزواج، لمجرد أن تكون متزوجة.
لكل منا حياته وظروفه وأهدافه الخاصة، لذا فإنه من الإجحاف بمكان أن يفرض أحدهم ظروفه، أو خبراته على الآخرين، بدعوى الحرص على المصلحة، فما يصلح لإنسان قد لا يناسب الآخر
لكل منا حياته وظروفه وأهدافه الخاصة، لذا فإنه من الإجحاف بمكان أن يفرض أحدهم ظروفه أو خبراته على الآخرين، بدعوى الحرص على المصلحة، فما يصلح لإنسان قد لا يناسب الآخر، وكل أدرى لما يصلح له، وميسر في النهاية لما خُلق له .