ست بصائر عند اختيار شريك الحياة (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » ست بصائر عند اختيار شريك الحياة (1-2)
Marriage-3

1. أنت أولاً:

مبدأ كل قوة في اتخاذ القرار –أي قرار– هو أن تكون على بيّنة من مرجعيتك أنت أولاً، أي نسق التصورات والمبادئ والقيم التي تبني عليها معاييرك، وبالتالي موازناتك واختياراتك المختلفة، وتصدر عنها في فكرك وفعلك وذوقك ...إلخ. كلما كنت راسخاً في مرجعيتك -أي محدداً وفاهماً لها، ومؤمناً بها- كنت أقدر على الإقدام بثبات في معترك الحياة، تماماً كمن معه بوصلة حاضرة تمكّنه من إيجاد القبلة أنّى توجّه. وغالب الذبذبة التي تنشأ عند مفترقات الاختيارات الحياتية، هي بسبب تذبذب هذه المرجعية، وبالتالي تذبذب المعايير والمبادئ والأفهام التي تشكل إطار الحركة.

وفي سياق اختيار شريك الحياة، فأهم ما ينبغي أن يستقيم عندك –أولاً- المفاهيم والمعايير المتعلقة بالسياق. فالبدء بتحديد مفهومك عن #الزواج والسكن، وتعريفك للتكافؤ والتوافق، وتصورك للأدوار الفردية والمشتركة ...إلخ، هو الأساس الذي عليه تلقائياً تبنى المعايير المطلوبة فيمن يكون شريكك في هذا التصور، بل ويحدد أقدار المعايير عندك، من حيث أيُّها لازم قطعاً وأيُّها مستحب، وأيُّها محل تنازل أو مرونة.

وبخلاف تبيّن المرجعية الذاتية وتوضيحها، من الأهمية بمكان البدء بتحليل الذات من حيث أهليتها للشراكة أولاً. فقبل أن تتساءل عن الآخر هل يصلح لك؟ يفيد أن يكون لديك تصور عمن تصلح أنت له بداية. ومن عجز عن معرفة ذاته واستيضاحها فهو عن معرفة غيره أعجز ، فتأمل! لذلك من أسباب التذبذب في تقييم الآخر هو أن الآخر يظهر بذاته صالحاً، لكن اجتماعه بك -وإن كان صالحا له- لا يصلح لك، أو أن يكون صالحاً لك لكنك أنت لن تصلح له، ولن تكون شراكتك إياه عوناً له.

البدء بالذات –أولاً- يختصر أشواطاً طويلةً من الحيرة والتذبذب في غير موضعهما، ومن إضاعة الوقت في إطالة تعارفات مآلها للانتهاء لا محالة، لو كان أصحابها على بصيرة من البداية. وهذه الإطالة الضبابية هي من أشد ما يعلّق الخواطر، ويتلاعب بالعواطف ويؤذي الشعور، فتنبه!

البدء بمعرفة الذات يختصر أشواطاً طويلةً من الحيرة والتذبذب في غير موضعهما، ومن إضاعة الوقت في إطالة تعارفات مآلها للانتهاء لا محالة

2. الارتضاء والموازنة:

لنتأمل دقة المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أوتي جوامع الكلم، في ألفاظ هذا الحديث المعياري في اختيار الشريك: (إذا جاءَكم من ترضَونَ دينَهُ وخلُقَهُ فأنكِحوهُ) [الترمذي].

فالنظر إلى مؤسسة الزواج نظرة مسؤولية، يُحتّم على كل طرف مُقبل على تكوين هذه المؤسسة أن "يرتضي" شريكه. مفهوم"الارتضاء" بدلالاته العميقة يلفت النظر إلى عدم الاكتفاء بمجرد "الجيد"، و"اللابأس به" بتقييمات الناس مادام الطرف المعنيّ لا يرتضيه، وكذلك لعدم التبعية لكلام الناس فيما يرتضيه صاحب القرار، وعدم ارتضاء طرف لآخر في سياق الزواج ليس قطعاً بعدم خيريته أو أهليته، لكنه ببساطة يعني أن خيريْهما لا يجتمعان اجتماعاً سوياً أو مرتضياً، بما يعين على مسؤوليات هذه المؤسسة من تراحم وتعاون على أمر الله.

ومن جهة أخرى، فتخصيص ذكر "الخلق" بعد "الدين"، ينبه إلى المفهوم الدقيق للمعاشرة والمعاملة . فدين المرء من صلاة، وصيام، وفرائض، ونوافل، وعلم وخلافه، علامات ودلائل يرجى معها صلاح سيرته وسريرته، لكنها تبقى في النهاية بين العبد وربه، ونفعها لصاحبه وتبعتها عليه، وما يتعدى نفعه فيها كالتعليم والدعوة، فليس مما يصب مباشرة في المطلوب الإنساني والنفسي والبدني للعشرة بين زوجين تحت سقف واحد. لذلك لابد من التنبه للفتات الصغيرة، التي تعكس جوانب الطباع، والعادات السلوكية، وأسلوب المعيشة عند الحكم بارتضاء الخُلق، وليس فقط جانب المعاملات العام، خاصة في المواقف التي يتخفف المرء فيها من التكلف الاجتماعي، ويكون على طبعه الغالب، لذلك ينبغي الحذر من الانجراف وراء أجواء الأحلام والورديات التي تكتنف لقاءات التعارف، سابقة لأوانها الصحيح؛ لأنها تُعمي عين البصيرة عن إدراك ما يخفى عن عين الهَوَى.

وفي حين يُرجى لمن استقام دينه أن يوافق كثيراً من مكارم الأخلاق، وجميل عادات العِشرة، لكننا في النهاية بشر لا ملائكة، والطباع تحكمها تنشئة وبيئات لابد بينها من تفاوت، وفي كثير منها مردها للعرف أو ما يتحمله صاحبه، لكن لا يقطع فيها بحلال وحرام وصواب وخطأ.

الطباع تحكمها تنشئة وبيئات لابد بينها من تفاوت، وفي كثير منها مردها للعرف أو ما يتحمله صاحبه، لكن لا يقطع فيها بحلال وحرام وصواب وخطأ

ولذلك كان لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقه نبيه في هذه التفرقة، وميزان دقيق في تقييم الرجال. ومن مواقفه في ذلك قوله: "لا تنظروا إلى صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى عَقله وصِدْقه". ولما جاء رجل يشهد لرجل بالصلاح عنده، قال له سيدنا عمر رضي الله عنه : "أأنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟" -لأن طول عشرة الجار يرفع التكلف، ويظهره على طبعه في مختلف المواقف-
- قال: لا.
- أسافرت معه في سفر؟ -لأن السفر يُسفِر -أي يبين- عن أخلاق الناس ومعادنهم-.
- قال: لا.
- أعاملته بالدينار وبالدرهم؟ -الذي به تظهر سخاوة نفس صاحبه وكَرَمه من بخله وشُحّه-.
- قال: لا.
- لعلك رأيته في المسجد يقوم ويقعد؟
- قال: نعم يا أمير المؤمنين!
- قال: اذهب فلست تعرفه!

وينبغي قبل الحكم على أهليَّة الشخص من حيث مجمل الأخلاق، استيعاب كل طرف للفارق بين كون المرء سابقاً فرداً في أسرة، وبين صيرورته فرداً مؤسساً لأسرة، فالسياق الجديد سيستلزم تلقائياً كثيراً من التوفيق والتعديل من كلا الطرفين، لكثير من الطباع والعادات بالضرورة، ثم تتبقى الطباع المستحكِمة، وهذه المردّ فيها كما ذكرنا لما يمكن تحمّله. فكما أنه لا يعقل أن يظل كل فرد على حاله، فلن يتغير كل شيء بالضرورة. إذ إن هنالك قدْراً مشتركاً وحدّاً معيناً لما يمكن للطرفين الاتفاق على تعديله، وقدْر آخر لابد لكل طرف من ارتضائه في شريكه على ما هو عليه، بما يعني القدرة على تقبله والتعايش اليومي معه.

وهنا يأتي مفهوم "الموازنة": الموازنة بين معايير مرجعيتك وواقعية الشريك المتقدم، ومدى مقاربته أو مباعدته منها، وبالتالي مدى ارتضائك لهذه الشراكة.

ومع فارق التشبيه وسموّ المشبه، تخيل حين تذهب مع رفقة لتشتري ثوباً لمناسبة معاينة، تجد أنك تمضي الكثير من الوقت في تدارس الأصناف، والمقارنة بين الأسعار، والمفاضلة بين المواصفات، ثم يختار كل واحد ما يرتضيه لنفسه. ويظل اختيار كل شخص خاصاً به، ليس بالضرورة أن يكون ما اخترت خيراً مما اختار صاحبك، ولا يشترط أن يستحسن صاحبك اختيارك كما استحسنته ، لكنه بالضرورة الأنسب لك في ضوء تقييمك ومقارنتك للمعروض.

هكذا مرحلة التعارف: هي مرحلة اختيار ومفاضلة، وهي لبُّ وقت الموازنات وتدارس العرض؛ لأن القبول به وارتضاءه له تبعات والتزامات بعد ذلك، لا يستقيم وقتها التأفف منها، أو اكتشاف عدم مناسبتها، خاصة وأننا نتكلم عن باب من أبواب الجنة في الدنيا والآخر، أو مدخل للجحيم المستعر في الدنيا قبل الآخرة! أفليس هذا أولى بالتأنّي والتدقيق والمفاضلة والموازنة؟!

لذلك من أكبر المداخل التي تشوش على صاحبها القدرة على الموازنة الشخصية، العرف الاجتماعي وكلام الناس حين نرفعهم فوق قدرهم المعتبر، ونجعلهم ليس شركاء في قراراتنا فقط، بل حقيقة صانعين له! فدع جانباً ما يوجبه الناس وتقتضيه الأعراف، ذلك أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله على عباده، عدا ذلك فهي موازنات وتنازلات وتقديرات شخصية يرتضيها كل طرف من الآخر سواء بسواء.

من أكبر المداخل التي تشوش على صاحبها القدرة على الموازنة الشخصية، العرف الاجتماعي وكلام الناس حين نرفعهم فوق قدرهم المعتبر، ونجعلهم ليس شركاء في قراراتنا فقط، بل حقيقة صانعين له

وأهمية أن تكون هذه الموازنات والقرارات نابعة عن قناعة وارتضاء من الطرف المعنيّ نفسه، يكمن في عدم تحولها لأسباب للمنّ بعد الزواج بما يحبط الثواب، ويذهب بجميل العشرة، حين يظل كل طرف يحسب على الآخر فضله ويعدد عليه تنازلاته، ويكدّر عليه بالمقارنات والمعايير "العالمية"، لزواج فلانة وزواج فلان. فلتذكر أنك وازنت، بمعنى أنك لم تر نقصاً إلا وقد رأيت ما عوضه في جانب غيره، فلا هضم ولا ظلم، ثم لتذكر أنك ارتضيت لنفسك هذا وذاك، بقدر ما ارتضى الآخر منك المثل، فلا مجال للتفضل والمنّ. ولا عبرة بعد هذين بما ارتضى غيرك لنفسه.

3. الإعداد الجاد لمنهجية تعارف:

بتقسيم مراحل التعارف لقسمين رئيسين:

1. ما يتعلق بالطرف الآخر فرداً: وهذا القسم المعلوم من حيث التعرف على الطرف الآخر، بما يشمل فكره ومفاهيمه، وتطلعاته ومبادئه، واهتمامته وصلاته، على المستوى الفردي الحالي الذي هو فيه.

2. ما يتعلق بالطرف الآخر زوجاً -شريكاً محتملاً: فلابد أن يشمل التعارف في مراحله المتقدمة التحاور والنقاش عن طبيعة تصور كل طرف لما سيكون عليه، وما يرجو أن يكون الآخر له، في سياق الشراكة المستقبلية. من الأهمية بمكان طرح أسئلة من قبيل: ما تصورك لسكن الزوجية؟ كيف تتخيل شكله وسمته وروحه؟ ما تصورك لطبيعة أدوارك ومهامك كشريك؟ ما تصورك لطبيعة أدوار ومهام الآخر؟ ما الذي يعنيه له كونك زوجا-زوجة-أبا-أما؟ ما التطلعات والمشاريع المشتركة التي تراها من أولويات ما نبدأ به حياتنا معاً؟ كيف تصورك لتقسيم الميزانية المالية والأوقات الشخصية؟

لابد أن يشمل التعارف في مراحله المتقدمة التحاور والنقاش عن طبيعة تصور كل طرف لما سيكون عليه، وما يرجو أن يكون الآخر له، في سياق الشراكة المستقبلية

ولا يشترط الإجابة عنها جميعاً في جلسة واحدة، أو حتى جواباً نهائياً، غاية الأمر هو إثارة هذه التساؤلات والاهتمام بالإعداد لها، ثم العمل على تطويرها معاً بما يرتضيه الطرفان، أو الانفصال في حال عدم الارتضاء.
ومع أنها قد تبدو أسئلة نظرية وإجابات مقالية، لكن حقيقة الأمر أن مدى جدية ودقة الأجوبة تعكس مدى جدية كل طرف في التعامل معها، ففي النهاية هذا سياق لا مجال لتجربته مسبقاً، وغاية ما يتاح في هذه المرحلة هو تبيّن مدى جدية الأطراف في الإعداد والتأهل.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الزواج
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

    شاهد أيضاً

    “بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

    كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …