تحدثنا على مدار مقالين متتالين وضمن سلسلة "علل وآفات"، عن خطورة تقديم أهل الثقة على أصحاب الخبرات والمهارات، ثم تأثير أن يكون التعيين هو السيد، وليس الاختيار والانتخاب. واليوم نكمل السلسة بِعِلَّة التبرير والصمت عن المحاسبة السياسية والفكرية داخل الحركات والكيانات بمختلف توجهها الفكري والسياسي.
ولما كان التبرير سلاح العاجزين، فإن خطره وآثاره كبيرة على مسيرة العاملين فى الحقل الدعوي خصوصاً مع سياسة الرضا بالواقع والميل للروتين وعدم الرغبة فى التجديد.
ولاشك أنه مرفوض شرعاً وواقعاً وحياة بصفة عامة؛ وذلك لأنه يعطل نهضة وتقدم أي كيان. وبالتبعية لايمكن التبرير بدافع العاطفة والحب لحركة أو جماعة؛ لأن هذا عوار منهجي يصيب الجسد وقد يطول علاجه.
والتبرير كمصطلح نفسي بأنه: "العملية التي يختلق بها الإنسان المبررات لما يأتيه من سلوك أو ما يراوده من أفكار وآراء، وذلك لكي تحل محل الأسباب الحقيقية"، فالتبرير عملية ستر للواقع وللحقيقة بستار تقبله النفس، وتستسيغه بدون أية ردة فعل، أو تأنيب من ضمير .
التبرير عملية ستر للواقع وللحقيقة بستار تقبله النفس، وتستسيغه بدون أية ردة فعل، أو تأنيب من ضمير
والسؤال الآن: ماهي النتائج التي تحدث نتيجة ظهور وتفشي هذه الآفة داخل الكيانات والحركات؟
أولاً- الاختراق السياسي:
والمعنى واضح والتجارب كثيرة، والتاريخ يؤكد أن غياب المحاسبة أوصل بعض الحركات والكيانات لمنابر أمنية مخترقة ، وليس شرطاً أن تكون مطبعة ومنسقة مع الأمن، لكن يكفي أنها تحقق أهدافه، فيكون الخيار أمام المتربصين بالحركات والكيانات إما إحداث كيان سهل التعامل معه، والإبقاء عليه، أو تصفية الفكرة بالجملة عبر تخطيط وعمل دؤوب، وأحسب أن هناك تجربة لهذا الأمر في بعض البلدان العربية.
ثانياً- ترهل القيادة:
وهذه النقطة تحتاج لكتب ومؤلفات كثيرة؛ لخطورتها على البناء والكيانات، فالقيادة التي تستعذب التبرير في إدارتها يتخللها الترهل القيادي مما يؤثر سلباً عليها ، فيصبح السمت المؤسسي مترهلاً، فلا نرى منها إلا كل انحناء وقصور وفشل، فيتحول المسار على يديها لشيخ عجوز كبير الجسد، ضخم الهيئة، لكنه ضعيف الأداء والثمرة.
ثالثاً- تفلت الأفراد:
لاشك أن العمل الناجح يشمل أفراداً بارعين في اختيار من يمثلهم، وكلما كانت القاعدة متزنة وقوية، كان الخيار متيناً والبناء متماسكاً، ويفرز دماء جديدة تحاسب وتمدح وتناقش، ومع وجود التبرير لن يكون هناك حساب ولا نقاش، بل تسير القافلة بمبدأ: (لايكلف الله نفساً إلا وسعها)، فيبرر الشخص ضعفه وفشله بأنها طاقته وما يملك، ولا يسعى في تحسين قدراته وطاقاته، أو حتى الاعتذار و تقديم قيادة أخرى تحل محله، حتى يزدهر العمل، فيحدث تفلُّت وعزوف، بل أحياناً يصل الأمر بالكفر بالفكرة نفسها. وهنا الطامّة التي لا نتمناها لأي كيان أو تجمع بشري.
رابعاً- انعدام الثقة في القيادات:
لاشك أن المحاسبة هي تطهير وتطهر، وغيابها يجعل الفرد يحمل في نفسه وفي عقله تساؤلات ربما تعصف بثقته في من يقوده، وهذا الأمر غاية في الأهمية، فليس مقبولاً أن يظل البعض يدندن مبرراً كل نقص، أو كسل، أو غياب ضمير، أو عدم محاسبة الآخرين، خصوصاً إذا كان مسارهم يحتاج إعادة نظر وتقويم، والأصل أن الدين النصيحة، والتذكير والحرص على الجميع، وعلى بقاء السيرة الذاتية مشرقة، وإبراء ساحات البشر جميعاً من أي ملوث أمر ضروري.
لاشك أن المحاسبة هي تطهير وتطهر، وغيابها يجعل الفرد يحمل في نفسه وفي عقله تساؤلات ربما تعصف بثقته في من يقوده
خامساً- إحداث حالة من التيه:
إن التيه الفكري لايحدث فقط من خلال تضارب الروايات والأطروحات وتضاد الأفكار، بل أيضاً يحدث مع رفض العاملين في الكيانات والحركات لمنطلقات التغيير، واستمرارية الروتين في الحياة الإدارية، والإصرار على تبرير كل قصور دون تقديم حلول تجبر هذا القصور أو تسدد وتقارب للوصول لحلول قوية تعالج خسران الماضي وآثاره السلبية، لذلك فالتبرير آفة ثقيلة وخطيرة، ولا أرى خيراً لأي كيان يجعلها أصلاً أو سنداً في حياته العامة؛ لأن العجز يأتي من كثرة التبرير، والفشل رفيق العجز .
ماهو العلاج حتى نؤسس لكيان قوي وحركة راشدة؟
أولاً- الصدق:
والمعنى أن يتم تربية الأنصار والمؤيدين على الصدق في كافة الأمور والأعمال، دون الحاجة للتجمل أو التبرير؛ لأن في الصدق نجاة وعصمة من المهالك، وواهم من يظن أن التبرير هو الحرص على البناء، بل ربما يزول البناء من كثرة تبرير قادته وأفراده.
ثانياً- وزن الأمور بحقها:
من خلال الأخذ بمعايير التعامل مع المخطئ بالمعنى الصحيح دون إفراط أو تفريط، أو تقديم الأعذار، أو عدم المحاسبة بدعوى تاريخ البعض أو جهادهم، فهذا أيضاً خطأ، فالسنن لا تحابي أحداً، والقائد القوي يطبِّق على نفسه اللائحة والقانون؛ حتى يكون قدوة لأحبابه.
ثالثاً- الخطأ والنظرة إليه:
الخطأ هو خطأ، سواء من كبير أو صغير، وقديماً قالوا: إن خطأ الكبير كبير! فكم من كبير أوقع كيانه في تيه وتخبط؛ لأنه لم يجد من يقول له "اتق الله" أو حتى يحاسبه حتى ينجو ويصون الكيان! وكذلك خطأ الصغير فقد ينظر إليه بدونية، لكن مع الأيام يتعدد الخطأ، وتحل الكارثة، فإن الحرائق تبدأ من مستصغر الشرر!
ختاماً، إن العامل البشري يفرض على المرء السعي لمزيد من تحديث ذاته، خصوصاً إذا كان في دنيا ذات أمواج عاتية، وعصر فيه الفتن كقطع الليل المظلم، وهذه مقومات دافعة للتطهير والمحاسبة، لا القعود وتبرير الفشل بأسباب واهية قد يقبلها المنطق، لكنها لاتسمن ولا تغني من جوع. والقائد الفطن هو من يحاسب من يعولهم، فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، ولا أرى إلا أن غياب المحاسبة هو ضياع وخيانة للأمانة، وأن تبرير العجز هو قمة الارتكان لركن الاندثار والزوال!