من بين أهم السمات التي ميَّز الله سبحانه وتعالى بها الإنسان، وفضّله بها على كثيرٍ ممَّن خلق تفضيلاً، أن جعل له العقل، ووضع فيه التمييز، وبالتالي فإنه سبحانه، حفظ للإنسان بهذا العقل كرامته، حيث العقل هو مناط التمييز الأول لدى الإنسان، وهو الذي يضمن أن يكون سلوك الإنسان على قدرٍ من الرشادة التي تحفظ له إنسانيته وكرامته.
وبالتالي فإن من تمام "إنسانية" الإنسان –لو صحَّ التعبير– أن يحافظ على كرامته، وأن يكون أهلاً لصيانة طبيعته الإنسانية، بما كرَّمه اللهُ تعالى بها.
ويرتبط بذلك أمرٌ آخر شديد الأهمية، فيما يتعلق بأهلية الإنسان، وقيمته الإنسانية كمخلوق اصطفاه الله تعالى؛ لحمل الأمانة العظمى، وهي إقامة عقيدة التوحيد، وعبادة الله تعالى وفق شريعته التي اختارها له.
هذا الأمر، هو عدالة الإنسان. والعدالة المقصودة: هي صنو الأهلية، حيث يتمايز الإنسان الحر الذي تُقبَل شهادته بكرامته وعدالته.
وأهم صور العدالة بهذا المعنى، هي عدالة صحابة رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وكان إثبات صفة العدالة على أي رواية للحديث النبوي في الأجيال التي تلت جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، هي من الأهمية بمكان لقبول روايته للحديث النبوي.
كان إثبات صفة العدالة على أي رواية للحديث النبوي في الأجيال التي تلت جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، هي من الأهمية بمكان لقبول روايته للحديث النبوي
والعدالة –وفق الكثير من القواميس وأقوال أهل العلم– يمكن تلخيصها في صفتَيْن: الاستقامة والمروءة، بما يشتملان عليه من صدق، وبُعد عن مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه، واتقاء الرِّيَب والشبهات.
والعَدْل لغةً -كما جاء في "الصحَّاح" للجوهري-: العدل خلاف الجور، ويُقال: عدل عليه في القضية، فهو عادل، و"رجل عدْل"، أي: رضا ومقنع في الشهادة.
وقال الجوهري: "تعديل الشيء: تقويمه، يُقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام".
وجاء في "المصباح المنير": "أن العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدولة والمعدِلة والمعدَلة".
ولقد عرَّف الخطيب البغدادي، في كتابه "الكفاية"، العدالة في الاصطلاح بقوله: "العدْل هو من عُرِف بأداء فرائضه، ولزوم ما أُمر به، وتوقِّي ما نهي عنه، وتجنُّب الفواحش المسقِطَة، وتحرِّي الحق والواجب في أفعاله ومعاملته، والتوقِّي في لفظه، مما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدْل في دينه، ومعروف بالصدق في حديثه، وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يُسمَّى فاعلها فاسقًا، حتى يكون مع ذلك متوقيًا لما يقول كثير من الناس إنه لا يعلم أنه كبير".
وفي هذا وقاية للإنسان، وتمام أهليته، فالإنسان المطعون في عدله وكرامته، لا تُقبَل منه شهادة أمام القضاء، ولا يكون له مصداقية أمام الناس، مما يضيِّع مصالحه، ولا يكون قادرًا على القيام بأعباء ذاته.
الإنسان المطعون في عدله وكرامته، لا تُقبَل منه شهادة أمام القضاء، ولا يكون له مصداقية أمام الناس، مما يضيِّع مصالحه، ولا يكون قادرًا على القيام بأعباء ذاته
ويرتبط بذلك، الصدق في القول، وأن يكون الإنسان عادلاً في أحكامه، ولو على نفسه، بل ولو على الوالدَيْن اللذين يُعتبر البر بهما بعد إيمان الإنسان بربه عز وجل، كما ذكر القرآن الكريم، والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
يقول الله تعالى في سُورة "النساء": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}.
ويقول تعالى كذلك في سُورة "المائدة": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِ مَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}.
أي أن الإنسان يجب أن يكون عادلاً، ولو كان ذلك على حساب مصالحه، وذلك هو أقرب لتقوى الله عز وجل.
ولعل في تأكيد العلماء على صفة العدل في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ما يدل على أهميتها، حيث إنها شرط قبول الحديث النبوي، والسُّنَّة النبوية، وهما يمثلان أحد مصدرَيْن أساسيَّيْن للتشريع لدى المسلم، مع القرآن الكريم.
ويقول حُجَّة الإسلام، أبو حامد الغزالي، في "المستصفى": "إن العدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفًا وازعًا عن كذب".
ويضيف أنه: "لا يُشترط العصمة من جميع المعاصي، ولكن يجب أن يتفادى الإنسان المسلم، صحيح الإسلام كل ما يدل على ضعف تدينه، وذكر بشكل خاص "الكذب بالأغراض الدنيوية".
كما شرح ما يقدح في مروءة وعدل المرء من السلوكيات التي يظن البعض أنها بسيطة، ولكن في الواقع أن تجنبها شديد الأهمية في حفظ كرامة الإنسان، مثل: "الأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأراذل، وإفراط المزاح".
ولذلك فالحرص على الكرامة الإنسانية، مثله مثل الحرية، مثل الحفاظ على العقل، من تمام تكليف المرء وعدله وأهليته، بل أجرؤ على القول اجتهادًا: إن حِرْص المرء على كرامته، إنما هي من صميم مقاصد الشريعة الإسلامية.
العدالة هي ملكة في النفس، تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، ولا يتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي
وكما قال قائل: فإن العدالة هي ملكة في النفس، تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، ولا يتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي، والأهم أنها لا تتحقق إلا بالإسلام، والبلوغ، والعقل. أي أنها من تمام إنسانية الإنسان.