واحدية الغاية من هذا الوجود وتعدد الوسائل المعينة عليه
بدايةً، غاية #الزواج هي اجتماع اثنين في شراكة تعاون على أمر الله، وليس هو بذاته غاية تراد لذاتها، وإنما وسيلة تراد لما تعين عليه من بلوغ الغاية الكبرى من هذا الوجود. إذن حقيقة قيمة وجودك مستمدة في الأصل من مدى حسن قيامك بوظيفتك التي لها وجدت، ومن أجلها خلقت، وعليها تحاسب، الاجتهاد في القيام بأمر الله تعالى كما أمر الله تعالى.
أما الزواج فهو واحد من سنن الحياة، وأحد صور الرزق، وأدوات العون على تلك الوظيفة الأم، لكنه ليس السنة التي بدونها لا تقوم حياة، ولا هو الرزق الذي بغيره لا معنى لبقية النعم المأخوذة على أنها مُسلّمات، ولا هو المعين الأوحد في هذا الاختبار، فبدونه ترسب وتضعف وتنتحب في انكسار؛ ذلك أن الله تعالى هو المسؤول -أولاً وأخيراً- أن يعينك في كافة سياقاتك وظروفك التي هو تعالى يوقفك فيها، بما فيها سياق الزواج؛ لأن الزاوج ليس بديلاً عن عون الله تعالى، بل هو صورة من صوره، كالمال والصحة والعلم والعلاقات...إلخ. فإذا أذن الله لكِ بزوج، كان سبحانه المسؤول أن يعينك على التوافق معه، بما يحقق غاية اجتماعكما من تعاون على أمره. وكم من زواج ينتهي معاكساً لأمر الله تعالى، وشغلاً عنه بدل التعاون عليه، حين يفوت هذا الفهم للتوفيق في العشرة كما التوفيق للزوج، فيظن البعض أنهم استغنوا بـ"نصفهم الآخر"،عن ربهم الصمد (القائم بذاته المقصود في كل الحوائج).
أما إذا قدر الله لك أن تخوض اختبار الحياة فردًا، فهذا لا يعني أنك وحدك قطعًا، فإن حسبك الله وهو لا بد كاف عبده كما وعد، بأي صورة من الصور، وأداة من الأدوات يقدرها ويفتح بها بحكمته وعلمه.
الزواج فهو واحد من سنن الحياة، وأحد صور الرزق، وأدوات العون على تلك الوظيفة الأم، لكنه ليس السنة التي بدونها لا تقوم حياة، ولا هو الرزق الذي بغيره لا معنى لبقية النعم
شريك في الله على الدرب، أم شريك مع الله في القلب؟!
إن الزواج سبيل عون ضمن سبل أخرى، والتنشئات الخاطئة هي التي حولته لغاية بحد ذاته، وإله صغير من الآلهة التي تتزاحم في قلوب العباد، وتشغلهم عن الله باسم الله! مصداق قوله تعالى: }ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{[ سورة الزمر:29]. فبدلاً من ابتغاء رضا الله تعالى فيما آتانا بشكره، وحسن استخدامه كما أمر، وفيما منع عنا بحمده، واليقين بحكمته والتصبر باستعانته، حوَّلْنا أدوات الرزق من وسائل استعانة لغايات إلهاء عن أمر الله، بل نتوقع من الله تعالى أن يكون معبرنا ووسيلتنا إليها، ونعتب عليه أنه يؤخر عنا بعض مستحقاتنا! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إن الله تعالى لايحاسبك على رزق بذاته هل فاتك أم أتاك ، ولا ما الذي كان ليفوتك أو كان سيأتيك مما كنت تتوقع، وإنما على ما توفاك عليه كيف عملت فيه، ما آتاك كيف ابتغيته فيه وشكرته عليه، وما منعه عنك كيف صبرت ابتغاء وجهه، وتمسكت بحسن الظن فيما هو أهله وفي عدله وحكمته. فإن الله تعالى لا يعجزه شيء ولا تتعاظمه أمنية ولا يمنع بخلاً، وإنما لبّ الأمر كله أن الله يعلم وأنت لا تعلم، واختبار الإيمان كله في مدى ثباتك على هذه القاعدة، فلو أن كل ما أردت مُنِحْتَه، وكل ما لم ترد منعته؛ لأن الله تعالى من حيث القدرة لا يعجزه شيء– فإذن أين الاختبار! بل أين تمحيص درجات الإيمان بين كل هذه الدعاوى المرفوعة والشعارات المدبوجة!الزواج سبيل عون ضمن سبل أخرى، والتنشئات الخاطئة هي التي حولته لغاية بحد ذاته، وإله صغير من الآلهة التي تتزاحم في قلوب العباد، وتشغلهم عن الله باسم الله!
فليحذر كل مشغول بـ"تأخر" الزواج، مهما زعم أن ذلك في الله، من تحول مفهوم شريك الدرب لشريك الله في القلب! بتضخيم حجمه والافتقار لوجوده وتكميله، حتى يصير إلهًا صغيرًا بذاته بدونه لا تكمل ذات صاحبها، ولا تستقيم له عبادة دون ذاك المفقود، مع أن الله تعالى -الذي له يُتَوَجَّهُ بالعبادة- موجودٌ!
تضخم شعور الاحتياج ووهم الافتقاد
ولا بد من التنبه لمعنى آخر، هو في الأصل من نزغ الشيطان. عندما نتأمل في قصة آدم وحواء، نجد أن الله تعالى قد كفاهما وأغناهما بجنة، كلاهما فيها لا يجوع ولا يَعْرَى، ولا يظمأ ولا يَضحَى (لا يحصل حر شمس الضحى)، فضلًا عما جعل بينهما من سكن. وسط كل هذا النعيم، هل كانا حقًا بحاجة لتلك الشجرة المحرّمة؟ جنة كلها حلال لهما، يأكلان منها رغدًا حيث شاءا، إلا شجرة! شجرة واحدة فقط! للوهلة الأولى تبدو هذه الشجرة هينة!
إذن كيف وسوس إليهما الشيطان ليغريهما بتلك الواحدة الحرام عن المئات الحلال؟
لقد "زيّنها" في أعينهما، أي أنها لم تكن حقيقةً زينةً في ذاتها، لكنه "صوّر" لهما أنها كذلك.
وزيادة على ذلك، أيقظ فيهما مطامع خفية لتطلعات لم يكونا حقيقة بحاجة لها، لولا أنهما استرسلا خلفها: أن يكونا مَلَكيْن بالأكل من الشجرة، أو يكونا من الخالدين. لقد "أوهمها" أنهما يريدان هذا الأمر بشدة، مع أنهما كانا في غناء وسعة لو اشتغلا بما أحل الله عما حرم، لكنه الاسترسال وراء خواطر السوء وتكبير الشيطان لها.
لقد {دلّاهما بغرور} [الأعراف: 22]، أي ما زال يخدعهما ويزخرف لهما الباطل، وهما مسترسلان في الاستماع لغوايته حتى استحكمت الرغبة فكان الاجتراء على الأكل.
وماذا يقول الله في عتابهما : {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف : 22]. لقد ذكرهما بأنه نهاهما، وبأن الشيطان لهما عدو. وتلك التذكرة الثانية هي من أكثر ما ننسى أو نستهين بحقيقة تلاعبه بالخواطر وتقليبه للنفوس، فنتوهم أن كل احتياج هو حقاً من نفوسنا، وكل تضخم هو حقيقة من شدة افتقادنا. ولو استعذنا بالله وتشاغلنا بأمره، لأعاذنا وشغلنا وأغنانا بحلاله عن حرامه، وكيف لا وهو الذي يدبر الأمر كله، ويحول بين المرء وقلبه، أو يهديه صراطًا مستقيمًا!
من يتصبر يصبره الله
فما لك فهو آتيك على ضعفك، وما ليس لك فلن تستجلبه بقوتك. ولا يعني ذلك التواكل والتهاون في السعي، بل يعني إجمال الطلب كما في الحديث: (يا أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطَّلبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها، وإن أبطأ عنها فاتَّقوا اللهَ وأجمِلوا في الطَّلبِ: خذوا ما أحلَّ ودَعوا ما حَرّم) [رواه أبو نعيم والطبراني وغيرهما]. أي لا تتعجلوا الحلال بالحرام، ولا تلهثوا وتتهافتوا على الطلب بما يلهيكم بالوسائل عن الغايات، وينسيكم أن غاية السعي في طلب الرزق هو التعبد لله بالأخذ بالأسباب، لكنّ أحدًا لن يستجلب فوق ما كتب الله له.
غاية السعي في طلب الرزق هو التعبد لله بالأخذ بالأسباب، لكنّ أحدًا لن يستجلب فوق ما كتب الله له
والذي يعيش بهذه النفسية، نفسية التطلع دائمًا للناقص، والاشتغال دائمًا بالمفقود عن الموجود، وبالغد عن الآن، سيظل يعيش بها ولو أوتي ما تمنى؛ لأنه كلما أوتي شيئا تمنى ما بعده، فلا يملأ جوفه إلا التراب كما في الحديث : (لو أنَّ ابنَ آدَمَ أُعْطيَ واديًا مَلئًا مِن ذهَبٍ أحَبَّ إليهِ ثانيًا، ولو أُعْطيَ ثانيًا أحَبَّ إليهِ ثالِثًا، ولا يَسُدُّ جَوفَ ابنِ آدَمَ إلَّاالتُّرابُ، ويَتوبُ اللُّه علَى مَن تابَ) [البخاري].
:: ختامًا ::
- حذار أن تفتقر لمخلوق وتزعم أن ذلك في الخالق!
- ولا تعلق نفع وجودك وجدواه إلا بما بينك وبين ربك .
- واذكر أنك تبعث وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك!
- ويفر كل امرئ من أخيه وصاحبته وبنيه!
- ولا ينفعك أحد إن لم تنفع نفسك!
- فافتقر لله لا للأمنيات، واسأل الله من فضله الواسع، واذكر أنك بين اختبار منع ومنح على السواء، وفي كل حكمة وعدل ورحمة، مهما خفيت عنا فالأصل أننا نوقن بالله بالغيب.