قال جبران لمي في وصف حبهما: "أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال". وللأسف نجد هذا الكلام ينطبق على كثير من الناس الذين يريدون ويسعون دوماً إلى الكمال في حيواتهم، وللأسف مثل هذا الأمر غير وارد.
فالكمال ليس من صفات الحياة الدنيا، لذا على الإنسان أن يدرك أن الفقد والخسارة جزء لا يتجزأ من معادلة الحياة، وأنه حتى يسعد بأمر ما أو يختاره، فعليه أن يضع في الاعتبار أن يخسر أموراً أخرى في المقابل، فمثلاً من يعمل ساعات طويلة يومياً لا ريب أن حياته وعلاقاته الاجتماعية ستتأثر بهذا الأمر. وكلما عمل ساعات أكثر؛ ليحصل على مال أكثر وأكثر، فإن الأجزاء الأخرى من حياته لا شك ستتأثر بصورة أكبر شيئاً فشيئاً.
على الإنسان أن يدرك أن الفقد والخسارة جزء لا يتجزأ من معادلة الحياة، وحتى يسعد بأمر ما أو يختاره، فعليه أن يضع في الاعتبار أن يخسر أموراً أخرى في المقابل
كيف نحقق أهدافنا دون كمال؟!
كثيرًا ما نحاول إكمال الصورة التي نمتلكها، فنحرص على إضافة المزيد إلى حياتنا. رغم أنه من الممكن أن نحسن في الصورة الحاضرة ، بالضبط كمن يملك بيتًا صغيرًا، فيرغب في شراء بيت أكبر وهو لا يملك المال، بينما يمكنه ببعض الأفكار الهندسية والمبتكرة أن يستغل المساحات المتوفرة عنده، فتتسع الشقة لأشياء كثيرة رغم ضيقها.من جهة أخرى، يؤجل البعض عملًا أو حلمًا ما أملًا في الظروف المثالية، فيؤجلون تأليف كتاب، أو زواج، أو سفر، بانتظار ظروف أفضل. وفي هذا يقول "إرني. جي. زيلينسكي" في كتابه "اعمل أقل تنجح أكثر"، أنه قام بمراجعة كتابه عدة مرات، وفي كل مرة يجد فيه بعض الأخطاء، ولكنه قرر في النهاية نشره على أي حال، معلقًا أنه لو انتظر أن يخلو الكتاب من الأخطاء، لما نشره مطلقًا. فالشاهد هو أن الحياة مليئة بالأشياء الناقصة وأعمالنا وذواتنا كذلك، فكيف في ظل كل هذا النقص، نحلم باللحظة المثالية الكاملة!
الحياة مليئة بالأشياء الناقصة وأعمالنا وذواتنا كذلك، فكيف في ظل كل هذا النقص، نحلم باللحظة المثالية "الكاملة"!
نحلم بالكمال حتى في ابتلاءاتنا!
فيدعو أحدهم مثلًا أن يهديه الله لأحسن الأخلاق، وأن يهديه ليقلل من عصبيته وانفعاله. فيجد ذاك الإنسان نفسه وقد انهالت عليه ابتلاءات الأخلاق، فيُسيء إليه فلان، أو يستفزه علان، وللأسف بدل أن يحرص هذا الإنسان على تطوير نفسه وتغيير ردة فعله، وبالتالي تحسين أخلاقه في كل موقف من تلك المواقف التي وضعه الله فيها؛ ليعينه على تحسين أخلاقه كما أراد هو أول مرة، تراه ذاك الإنسان يتبرم ويضيق صدره أنه لا يُستجاب له! وأنه بدل أن تقل مواقف الصدام كما دعا هو فهي تزداد و تتعقد. أو أنه كلما تحسن وتقدم خطوة، عاد ورجع خطوات للوراء، وكأنه لم يتحسن قط، فيصاب بالإحباط ويخيب أمله في نفسه، وفي النهاية يكف تماماً عن المحاولة!
والحقيقة أنه على الطريق الصحيح طالما أنه مستمر في المحاولة لا يفتر، وإن تعثر أحياناً أو زلَّ. والله تعالى يقول في كتابه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت:96] ووصف الله تعالى داود عليه السلام بأنه نعم العبد؛ لأنه كانت أوَّابًا ،قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [سورة ص:30]. أي أنه كان كثير التوبة، كثير الذكر والتسبيح والرجوع لله. ومدح هذه الصفة مهم جداً لنا نحن البشر؛ لأننا نخطئ ونقصِّر طول الوقت، لكن المؤمن والمستقيم فينا بحق، والقريب إلى الله، هو الذي يكثر الإنابة، وليس الذي لا يجاهد نفسه ولا يخطئ أو يقصر .
يمكن أن نشبِّه تعرضنا للابتلاءات في ذات الأمر الذي نطلب من الله الخلاص منه، بمثل التمرينات التي نقوم بها؛ لإتقان مهارة معين
ويمكن أن نشبه تعرضنا للابتلاءات في ذات الأمر الذي نطلب من الله الخلاص منه، بمثل التمرينات التي نقوم بها لإتقان مهارة معينة، فتجد لاعب الكرة يكرر التمرين آلاف المرات حتى يتقن اللعب. والراغب في الكتابة والتأليف تجده يكتب العشرات والمئات من المقالات، والقصص، والمؤلفات دون كلل أو ملل؛ لرغبته في تطوير كتابته، وهو لا يشك أن اليوم الذي سيتقن فيه الكتابة لا محالة آتٍ طالما أنه يتدرب ، ويتعلم من أخطائه.
وهكذا، فإذا نظرنا للابتلاءات من نفس المنظور، كان هذا أولى أن يجعلنا نستغل كل موقف نُبتلى به؛ لترتفع درجة إيماننا، ونغدو مسلمين أحسن ديناً وأَسلَم نفساً.