في الثاني من نوفمبر عام 1917م أرسل (آرثر بلفور) وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى (وولتر روتشيلد) أحد قادة اليهود في بريطانيا، وكانت الرسالة تحمل وعدا من الحكومة البريطانية بدعم قيام وطن قومي لليهود في فلسطين.
كان تعداد اليهود في ذاك الحين لا يزيد عن 5% من تعداد سكان فلسطين، وقد أُرسلت هذه الرسالة قبل شهر من احتلال بريطانيا لها.
نحن الآن على بعد قرن من الزمان من هذا الوعد البريطاني الشهير لليهود، والذي تحقق فيما بعد، عندما أُعلن قيام دولة الاحتلال في 14 مايو عام 1948م، وذلك قبل انتهاء الانتداب البريطاني بثماني ساعات، وقد تسابقت حينها دول العالم في الاعتراف بالدولة الوليدة، ورفضها العرب والمسلمون جميعا، ثم دارت السنون وتوالت الأحداث، وأصبح العرب يتسابقون إلى إعلان هذا الاعتراف علانية، بعدما اعترفوا به سرا سنين طويلة، وأقاموا علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية مع الدولة الصهيونية.
لكن، وبعد مرور هذا القرن، نجد أنفسنا أمام منعطفات تاريخية حقيقية مع المسألة الفلسطينية، منعطفات تاريخية تحمل في طياتها مخاوف كبيرة من تصفية القضية تصفية نهائية، والمخاوف بالطبع هي مخاوف تنبع من أن التصفية ستكون لصالح العدو الصهيوني، مع غمط كبير للحقوق العربية والإسلامية.
ولهذه المنعطفات التاريخية الراهنة عناوين نوردها بشيء من التفصيل فيما يلي..
1_ الوهن العربي التاريخي:
كتبت في مقالة سابقة بعنوان (زمان الوهن الأكبر) ما نصه: (وإذا تتبعنا تاريخ الأمة الإسلامية كله من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا الراهن فلن نجد وهناً عاشته الأمة مثل ذلك الوهن الذي نعيشه اليوم، وهو الوهن بمعنييه، حب الدنيا وكراهية الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والضعف والفتور كما يجيء في معاجم اللغة).
وقلت: (لم يحدث في تاريخ الأمة العربية والإسلامية هذا الخنوع والذل من كل البلدان والأنظمة أمام الأعداء والخصوم، وهذا التواطؤ والخيانة منها، وهذا الجبروت والطغيان من كل البلدان والأنظمة على شعوبها وأبنائها، وهذا الاجتماع والاتفاق والتعاون على قمع الشعوب وسلب حرياتها وقتل كل تطلع وليد للحرية والكرامة، ومعاداة أصول الأمة ومنهجيتها العقائدية والتاريخية).
2_ التقارب العربي الصهيوني التاريخي.
نحن الآن في مرحلة تقارب عربي صهيوني تاريخي، شهد بذلك التقارب القادة الصهاينة في أكثر من مناسبة.
صرح بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال يوماً وقال: (تهديد الإرهاب الإسلامي خلق علاقات جديدة بين "إسرائيل" والدول العربية التي لم تعد تعتبر "إسرائيل" عدواً بل حليفاً حيوياً لها ضد تلك القوى).
وصرح في أكثر من مناسبة أخرى بتصريحات مماثلة و مقاربة، وقد وصل هذا التقارب إلى أبعد حده عندما خرجت التسريبات لتتحدث عن زيارة قام بها مسؤولون عرب بارزون إلى دولة الاحتلال سراً.
3_صفقة القرن والمؤامرة التاريخية.
بعد كثير من التلميحات والتسريبات ثم التصريحات، أصبح موضوع صفقة التسوية العربية "الإسرائيلية" المعروفة بـ(صفقة القرن) موضوعاً معروفاً ومقطوعاً به.
حيث جاءت العديد التصريحات من هنا وهناك لتؤكد الأمر، وتشير إلى أبعاده.
ومن الواضح أن صفقة القرن هذه صفقة تهدف إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، والظاهر أن هذه التصفية تتضمن وطناً بديلاً للفلسطينيين، وأن هذا الوطن البديل سيكون اقتطاعاً من أرض سيناء المصرية المتاخمة لقطاع غزة أو ربما شيئاً آخر، هذا هو ما تشير إليه التسريبات والتلميحات حتى الآن، ولم يُقطع بذلك بتصريح أو موقف رسمي، غير أننا اعتدنا في وطننا العربي أن تسبق التسريبات المواقف الرسمية، ثم تأتي المواقف كما ألمحت التسريبات، وكما يقول المثل (لن تجد دخاناً من غير نار).
وصفقة القرن هي صفقة شاملة وعامة، بمعنى أنها تصفية للخلاف العربي الصهيوني كله، بحيث يكون طرفاها دولة الاحتلال من ناحية، والعرب جميعاً من ناحية أخرى، وذلك برعاية أمريكية وغربية كما هو معلوم بالضرورة.
4_ محاولة احتواء المقاومة الفلسطينية وتدجينها
حركة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني هي حركة تاريخية مستمرة من قبل قيام دولة الاحتلال وإلى الآن.
ولما عجز العدو الصهيوني عن كسرها في مواجهات عديدة وحروب متتابعة، لجأ إلى مؤامراته ودسائسه وإغراءاته من أجل الاحتواء والتدجين.
وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا مع حركة المقاومة الوطنية (فتح)، وتحولت فتح في جزء منها إلى حركة خانعة لإسرائيل ومداهنة لها، بل ومتواطئة معها. ونحن نقول هنا إن جزءاً كبيراً من حركة فتح قد أصبح كذلك، ولم نقل إن فتح كلها، فما يزال في فتح بقيةٌ من شرفاء، وبقيةٌ من وطنية ونضال.
ثم التفتت دولة الاحتلال لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وها هي تحاول احتواءها وتدجينها بالضغط والحصار والتآمر الإقليمي والعالمي.
وتبقى معركة إنهاء حركة المقاومة الفلسطينية بجناحيها الوطني والإسلامي قائمة، ويبقى المناضلون الفلسطينيون الوطنيون والإسلاميون الشرفاء في محاولة للمرور من كل العواصف الهوجاء التي تحيط بهم، ويحاولون تجاوز كل مخطط ومؤامرة عليهم بأكبر فائدة وأقل خسارة.
5_ صهاينة العرب وصهاينة فلسطين.
أكبر خطر يتهدد القضية الفلسطينية الآن ويجعل لحظتها الراهنة لحظة تاريخية هو أن صهيونيةً تفشت في العرب والفلسطينيين إلى حد أن نجد صهاينة منهم ربما يكونون أكثر صهيونية من اليهود أنفسهم.
عندما نجد على سبيل المثال مسئولاً فلسطينياً يتحدث عن حق "إسرائيل" في حائط البراق، ونجد مسئولين وإعلاميين في دولة مجاورة يتحدثون عن الصهاينة باعتبارهم حلفاء، في نفس الوقت الذي يتحدثون فيه عن المقاومين باعتبارهم إرهابيين وخونة.
ومسئولاً آخر في دولة أخرى يتحدث عن اليهود كأبناء عمومة، وعن أن الحل للقضية يكمن في حل الدولة الواحدة التي تجمع العرب واليهود، وتبقى تسميتها مع ذلك بـ"إسرائيل".
وتجد مسئولين في بلد مجاور يتحدثون عن أن أمن "إسرائيل" هو من أهم أولوياتهم التي يعملون عليها، ثم يصرحون لحفظ ماء الوجه بأن أمن الفلسطينيين مع أمن "إسرائيل" كذلك.
وغير ذلك كثير وكثير.
نحن في لحظة تاريخية حقيقية تمر بها القضية الفسطينية، اجتمعت لها كل العوامل من أجل إثبات تاريخيتها، ولا نبالغ إذا قلنا أنها لحظة تاريخية لا تقل عن تاريخية وعد بلفور، فإن كان بلفور قد وعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فإن الذي نحن بصدده هو تثبيت أركان هذا الوطن، وإرغام العرب على الاعتراف به، وإنهاء كل مظاهر الرفض والمقاومة، وإغلاق القضية برمتها.