مئة عام مرت وما زال الجرح على مصراعيه مفتوحا. ماذا كان يدور في خلد وزير الخارجية البريطاني آثر بلفور عندما كان يسطّر على مكتبه تلك الرسالة التي احتوت 67 كلمة وتضمنت وعدا من الحكومة البريطانية بإقامة وطن لليهود في فلسطين. هل كان يُدرك حجم المآسي التي كانت ستنجم عن هكذا وعد؟ حتما الجواب نعم، فهو السياسي المحنك، والمؤرخ والفيلسوف والقارئ النهم، هل كان يدرك أن حجم الصراع بين مَن سَلَبَ ومَن سُلِبَ لن يتوقف عند قطعة من الأرض، وإنما سيمتد حتى يشمل الذاكرة والتاريخ، والدين والثقافة وحتى أسماء المدن والشوارع والقرى ومحاصيل البيادر والمناجل؟ الجواب أيضا نعم، ولذلك وببساطة تامة فإن بريطانيا تتحمل بشكل مباشر المسؤولية الكاملة عن مأساة شعب بأسره طيلة هذه المدة الطويلة من الزمان.
لم يكن وعد بلفور يتضمن السماح لليهود في أوروبا بالهجرة والاستيطان في أرض ليست أرضهم وحسب، بل تضمن أيضا اقتلاع أصحاب الأرض من أرضهم، والزج بهم في أتون المنافي والشتات. كان إذن وعدا مزدوجا يتضمن الإحلال والاقتلاع في ذات الوقت، ولذلك لم يكن المشروع الصهيو- بريطاني مثل غيره من المشاريع الاستعمارية، بل كان فريدا من حيث الفكرة والتكوين.
ففي الوقت الذي كانت المشاريع الاستعمارية -البريطانية والفرنسية- فيما يتعلق بمخلّفات الدولة العثمانية من الأراضي العربية تتراوح بين الوصاية والانتداب، كان المشروع الغربي في فلسطين يتعدى ذلك متضمنا إسقاط عاملي الزمن والإنسان، فقد تم الترويج في العالم الغربي -على الأقل- إلى فكرة أن فلسطين أرض خاوية بلا سكان، وبناء على ذلك لا بدَّ للعالم المتحضر أن يضطلع -كما يدّعي- بالمهمة الإنسانية المكلّف بها بأن يُعيد إعمارها من جديد باستجلاب العنصر الغربي "المتحضر" للسكن فيها إلى الأبد. ولذلك عندما قررت بريطانيا الجلاء عن أرض فلسطين احتفلت باستقلال "إسرائيل"، وكأنّ "إسرائيل" كانت بالأساس موجودة، وأنها كانت محتلة وتستحق الاستقلال!
لا يتسع المقام لذكر حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأرضه المحتلة بهذه العجالة، ولا يمكن أيضا ذكر حجم الخذلان الذي مُنّي به سواء من القريب أم من الغريب البعيد. فمنذ وعد بلفور تفجرت في فلسطين الثورات تلو الثورات، واشتعلت المعارك تلو المعارك، من ثورة يافا 1919، إلى ثورة موسم النبي موسى 1920، إلى ثورة البراق 1921، إلى الثورة الفلسطينية الكبرى 1931، إلى حرب عام 1947، وحرب عام 1967، إلى الانتفاضة الأولى 1987، وانتفاضة الأقصى 2000، إلى المعارك المتكررة على غزة والتي كان آخرها في عام 2014، حيث لا يزال مسلسل الصمود الفلسطيني مستمرا وما زال حجم التضحيات يتراكم ليشكل ملحمة فلسطينية عزَّ نظيرها في التاريخ الحديث.
أما حجم الخذلان فحدّث ولا حرج. هل كان يمكن أن نتصور أن مصير فلسطين سيكون هكذا لو أن العرب لم يضعوا أرض فلسطين على طاولة المساومة مع قوى الاستعمار الغربي؟ هل كانت فلسطين ستصير إلى الاحتلال البريطاني، وهل كانت ستصير إلى الاستيطان الصهيوني لو أن العرب وضعوا كافة إمكانياتهم في وجه المشروع الاستعماري ورفضوا كافة خطط التفريط بواحدة من أقدس أراضيهم؟ وهل كانت فلسطين ستبقى تحت الاحتلال الصهيوني كل هذا الوقت لو أن الفلسطينيين لم يتنازعوا فيما بينهم على برامج سياسية متضاربة، تلك المنازعات التي شتّتت جهودهم ومكّنت لعدوهم أن يبقى كل هذه المدة جاثما على أرضهم.
ليس هذا -على أية حال- مجرد جلد للذات، بل إقرار لواقع لا يمكن التنكر له، وحاجة للتصحيح لا بدَّ منها. هناك مَن سيقول إن المشروع الصهيوني لم يكن ليستمر أو يتمكّن لولا الدعم الغربي المقدم له من الدول الكبرى. وهذا لا شك صحيح، ويحمّلنا من حيث لا ندري مسؤولية أكبر بضرورة العمل ضمن الطاقة القصوى من أجل موازنة الدعم الخارجي للكيان الصهيوني.
تأتي الذكرى المئوية الأولى لوعد بلفور والقضية الفلسطينية في أسوأ حالاتها، فإضافة إلى الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي ما زال مستمرا -رغم المصالحة الأخيرة والتي نتمنى أن تضع حدًّا لا رجعة فيه لهذا الانقسام- منذ عشر سنوات، هناك حالة من الانكفاء العربي بعيدا عن القضية الفلسطينية تجاه التطبيع مع العدو الصهيوني تحت ذريعة مواجهة العدو المشترك الذي يجمعهما والمتمثّل في "المشروع الإيراني". يمكن باختصار وصف هذه المرحلة التي نعيشها بمرحلة الانقسامات المعقدة: الانقسامات الداخلية الفلسطينية- الفلسطينية، والانقسامات العربية- العربية، بين تلك التيارات المؤيدة للثورات العربية والمعارضة لها، وانقسامات إسلامية- إسلامية على مستوى الدول والأفكار والأيديولوجيات. وفي ظل كل هذه الانقسامات، تتوارى القضية الفلسطينية بعيدا عن دائرة الضوء، ويصبح الخطر المحدق بها واقعا لا يمكن تجاهله أو التهاون به.
في المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج نؤمن أنه بالرغم من الواقع المؤلم والماضي المثخن بالجراح فإن المستقبل لنا، لأننا نؤمن بقدرات الشعب الفلسطيني الهائلة، ونؤمن أن هذه الطاقات إذا ما تم استثمارها بالشكل السليم فهي حتما سوف تُعيد الحق لأصحابه
وعليه، ومن أجل تصحيح البوصلة الوطنية، وإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد من جديد بما تمثّله من أهمية لا جدال فيها، فقد تداعى فلسطينيو الشتات للالتقاء تحت اسم جامع ومظلة وطنية شاملة هي المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج الذي انطلق في (فبراير/ شباط) 2017م، من مدينة إسطنبول، وذلك تحت هدف مشترك يتمثّل في تفعيل دور فلسطينيي الخارج -المنتشرين في أصقاع الأرض والبالغ عددهم ما يقرب من سبعة ملايين نسمة- في المشروع الوطني تحت عنوان واحد هو التحرير والعودة، والمساهمة في القرار الوطني الفلسطيني بما يضمن مشاركة الجميع لتحقيق العدالة، والهدف المنشود.
إننا في المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج نؤمن أنه بالرغم من الواقع المؤلم والماضي المثخن بالجراح فإن المستقبل لنا، لأننا -ببساطة- نؤمن بقدرات الشعب الفلسطيني الهائلة، ونؤمن أن هذه الطاقات إذا ما تم استثمارها بالشكل السليم فهي حتما سوف تُعيد الحق لأصحابه. ونؤمن كذلك أن المؤتمر هو تلك المنصة الأنسب والأشمل التي سنعمل بكل ما أوتينا من جهد على توظيفها من أجل الاستثمار الأسلم والأكثر فاعلية لطاقة وإمكانيات الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. إن هذا المشروع يُمثّل وعد الشعب الفلسطيني بالحفاظ على الثوابت الوطنية، وبالتحرير والعودة إلى الوطن.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة