“أنامل التدوين” .. قشة نجاة الأمل في إحياء القضية الفلسطينية

الرئيسية » بصائر الفكر » “أنامل التدوين” .. قشة نجاة الأمل في إحياء القضية الفلسطينية
anamel

لم تتوقف الكلمات السياسية في المحافل الدولية، خلال الأيام الماضية عن الشجب والتنديد بقرار ترامب اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، علماً أن الأمم المتحدة قد صوتت سابقاً ضد تبعية القدس للاحتلال، في مشهد بات يشبه التسلسل الدرامي البطيء لملحميات النزاع السياسي العربي -الصهيوني- التي تتجه حلقاتها نحو تصفية القضية الفلسطينية، وتخفيف وطأة الصراع، والانزلاق في اتفاقيات السلام والتطبيع مع العدو الأول للعرب في منطقة الشرق الأوسط، خالقاً حالة من الإنهاك الروحي لدى متابعي المشهد السياسي، منطلقاً بهم نحو فقد الأمل في نجاح الحلول السياسية في إحداث تغيير محوري في مسار القضية؛ على الأقل خلال الفترة الحالية.

ورغم ما يعكسه الواقع السياسي والعسكري من ظلال سوداء على الأزمة الفلسطينية، إلا أن ما يسميه البعض بــ"العالم الافتراضي"، نجح في فتح آفاق وسبل جديدة للحشد الفكري لطرفي الصراع ، فمما لا شك فيه أن الهيمنة الأمريكية والبريطانية بل والصهيونية، على منابع التدفق الإلكتروني، لا تلتزم برداء الحيادية المثالي فيما تبثه أو تتناقله من معلومات، سواء في المواقع البحثية، أو خدمات الخرائط الإلكترونية، أو مواقع التقييم المختلفة، مروراً بشبكات التواصل الاجتماعي، وانتهاءً بالألعاب الإلكترونية المتداولة.

تسييس إلكتروني:

فما أن تتحرك أنامل أحدنا لكتابة كلمة فلسطين على محرك البحث الأكثر شيوعاً "جوجل"، حتى تتفاجأ بعدم اعتراف خرائطه بفلسطين كدولة، والاقتصار على أسماء بلداتها مكتوبة على صورها الملتقطة بالأقمار الصناعية، في الوقت الذي تأتي فيه المناطق الخاضعة للاحتلال الصهيوني تحت مسمى "دولة إسرائيل"، ورغم عدم الاختلاف على أن القضية أكبر من مجرد تعريفات على شبكة اتصالية، إلا أن عدد من الناشطين العرب حاول لفت أنظار العالم لذلك التدخل السياسي -غير المبرر- من شبكة معلوماتية من المفترض أنها بمنأى عن التحيُّز، معتبرين أن غياب اسم فلسطين عن خريطة تستخدم من قبل المليارات يومياً في أنحاء العالم، من شأنه تغيير رؤية المستخدمين وتوجيه أفكارهم.

ودشَّن النشطاء يتقدمهم منتدى الصحفيين الفلسطينيين وسم" PalestineIsHere"، يتهمون فيه الشركة بالتدخل في الشؤون السياسية، ويطالبونها فيه بالاعتراف بدولة فلسطين، إلا أن رد الأخيرة جاء أشد وطأة من الحدث نفسه، إذ أكدت أن اسم فلسطين لم يكن موجوداً بالأصل على الخريطة حتى يتم حذفه واستبداله باسم "إسرائيل"، مشيرة إلى أنه كان هناك خلل أزال اسمي الضفة والقطاع فقط، وعملت الشركة على إصلاحه وإعادته سريعاً.
ولم تكن خدمات جوجل الوحيدة في طريق محو دولة فلسطين من خارطة العالم الإلكتروني السياسية والجغرافية، إذ تقدم موسوعة ويكبيديا تعريفاً لفلسطين باعتبارها: "كيانات سياسية نادت جهات مختلفة بها، أو تتسمى بها كيانات سياسية غير مستقلة حالياً، أو قد يشير البعض به إلى كيانات سياسية سالفة في فلسطين، وتطالب بإنشائه على جزء أو كل أرض فلسطين التاريخية"، في الوقت الذي تعرف فيه الاحتلال بأنه : "دولة ظهرت حديثاً على أراضي فلسطين التاريخية بعد عام 1948م، وتقع في الشرق الأوسط في غرب آسيا، تقع على الضفة الشرقية للبحر المتوسط"، ورغم أن الموسوعة تتيح تصحيح وتعديل معلوماتها المقدمة، إلا أن محاولات تغيير تعريف "فلسطين" والاعتراف بها كدولة واجهتها تصميم متعمد على إبقاء اعتبارها مجرد كيانات سياسية تحاول إيجاد دولة لها.

ولعل خير دليل على تسييس عالم الفضاء الإلكتروني ومساهمته القوية في توجيه الرأي العام بشأن القضية الفلسطينية، هو تسرب رؤية الاحتلال الرافضة للاعتراف بدولة فلسطين إلى مواقع القياس البعيدة كل البعد عن تقديم المعلومات غير الإحصائية، كموقع "أليكسا" المتخصص في ترتيب مواقع الإنترنت على مستوى العالم؛ إذ تخلو صفحة الموقع من أي معلومات عند إدخال كلمة "فلسطين" للبحث عن ترتيب المواقع فيها! في حين يظهر ترتيب المواقع والصحف الفلسطينية مع نظيراتها الصهيونية في حالة البحث عن "دولة إسرائيل"!!

نجح الاحتلال في اختراق الأذهان بترسيخ تواجده وتواصله مع الشباب خصوصاً العربي، واستدراجهم للدخول في جدليات مهما بلغت حدتهما إلا أنها تثبت بشكل أو بآخر قابلية الحوار مع الصهاينة، والوقوع في فخ المهاترات بشأن حق "إسرائيل" في العيش بسلام في المنطقة

ونجح الاحتلال في اختراق الأذهان بترسيخ تواجده وتواصله مع الشباب خصوصاً العربي، واستدراجهم للدخول في جدليات مهما بلغت حدتهما إلا أنها تثبت بشكل أو بآخر قابلية الحوار مع الصهاينة، والوقوع في فخ المهاترات بشأن حق "إسرائيل" في العيش بسلام في المنطقة، بشكل غيّب الرؤية الحقيقية لـ"إسرائيل" باعتبارها كيان محتل، لا يملك أي حقوق سياسية أو جغرافية أو اجتماعية في المنطقة، وهو ما انعكس بشكل واضح على دعوات العديد ممن يُحسبون على طبقة مثقفي العرب، الذين باتوا داعين للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتنظيم رحلات سياحية لما أسموه بـ"دولة إسرائيل"، بحجة تضييع الفلسطينيين للقدس والأرض، وعدم وجود مبرر لاستمرار امتداد الصراع العربي الإسرائيلي لدول المنطقة.

مداهنة عربية:

وكما نجح الاحتلال في التأثير على قطاع واسع من الرأي العام، فطن بعض النشطاء العرب للدور الذي قد يحققه العالم الإلكتروني في مسار القضية على الأقل في إطار التطبيع الشعبي؛ إذ نجح وسم "#سعوديون_ضد_لومار" في التأثير على قرار شركة صناعة الأثواب السعودية، بتعيين الشاب السعودي لؤي شريف -الباحث في الحضارات العربية القديمة- سفيراً لها، رغم ترويجه للسياحة إلى ما أسماها بدولة "إسرائيل"، وإعلانه عزمه على الذهاب إليها أسبوعياً لزيارة "أورشليم"، جامعاً الأدلة على أحقية اليهود ونسلهم في مدنها!!

وأدت الحملات الإلكترونية المضادة لقرار الشركة الذي اعتبره بعض المتابعين ترويجاً للشخصيات المؤمنة بالتطبيع مع الصهاينة، فأعلنت الشركة بعد ساعات قليلة إلغاء تعاقدها مع الشاب، مؤكدة عدم تبنيها لأي وجهة نظر للمتعاقدين معها، وأنها تسعى لتقديم منتجاتها بمبادئ وقيم، أساسها الدين والعرف والثقافة.

ولم تقتصر المقاومة الإلكترونية على إطلاق الوسوم المتعلقة بالأحداث المختلفة والمتعلقة بالقضية، فقد تضمنت محاولات التوعية الفكرية بتاريخ القضية الفلسطينية وأبعاد الصراع بشأنها، وحقوق اللاجئين منها، عبر تقديم دورات مكثفة على شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى المراجع العلمية المتاحة مجاناً، دون وجود أي شروط للالتحاق بها، فضلاً عن بدء تقديم تلك الخدمات باللغة الإنجليزية الشهر الماضي، على موقع "أكاديمية دراسات اللاجئين"، الذي انطلق في (2010م) من بريطانيا بهدف تأصيل وترويج مبدأ حق العودة شرعاً وقانوناً.

وفي السياق ذاته ابتكر أحد الشباب في عام (2014م)، لعبة إلكترونية استراتيجية ثنائية الأبعاد، تحمل اسم "تحرير فلسطين"، تحاكي معركة طرد الاحتلال الصهيوني من الأراضي الفلسطينية المحتلة، كوسيلة للتواصل مع الشباب المولع بالعالم الإلكتروني، والذي لا يُعنى بقراءة التحليلات أو الأبحاث السياسية؛ لتوعيتهم بالقضية بشكل غير مباشر.

والحديث عن أساليب المقاومة الفكرية ليس جديداً من نوعه على التاريخ العربي -لاسيما الفلسطيني- الذي روّج مصطلح "المقاومة المبدعة" في المجال الفكري والعلمي والاجتماعي والفني، منذ حملات الإضراب سنة (1936م)، مروراً بالعصيان المدني، وحملات المقاطعة، وتنظيم الفعاليات المختلفة لنصرة القضية، وصولاً إلى النماذج الشابة مثل "باسل الأعرج" الذي حاول الخروج من فخ التضييق الأمني والعسكري والسياسي، فشق طريقاً آخرَ للمقاومة عبر زرع الرفض التام للوجود الصهيوني على الأراضي العربية في أذهان الأطفال واليافعين من أبناء وطنه، وحمّل نفسه عناء جوب الميادين والشوارع مبلغاً بوجوب الإيمان بالقضية، وعدم التخلي عن حق الأرض الكامل، إلى أن ارتقى شهيداً مقاوماً.

وضع الأزمة الفلسطينية في ميزانها العقدي والإنساني يضمن لها البقاء ما بقت الإنسانية حتى يأتي وعد الله بالنصر

إن التضييق الخانق الذي يعانيه العديد من المؤمنين بالقضايا الوطنية لا يحق له أن يخلق هالة من اليأس تكبل الأيادي والأذهان ، فوضع الأزمة الفلسطينية في ميزانها العقدي والإنساني يضمن لها البقاء ما بقت الإنسانية حتى يأتي وعد الله بالنصر، أما التعامل معها بحساب السياسة قد يأتي اليوم لها ببضع دونمات، وقد يمحوها غداً من خارطة العالم حسبما يحقق المصلحة، وحتى يعود سلاح المقاوم على كتفيه، ويدرك الشباب أن فوهة البندقية الوحيدة ليس لها هدف إلا المحتل، قد تنجح بعض الأنامل في إبقاء الروح في جسد الدولة الفلسطينية الحقة، بأرضها التاريخية وأقصاها المقدس، عبر إنشاء المنصات البحثية العربية، وتدشين المواقع التوعوية، ونشر المعلومات الصحيحة عن الأرض والتاريخ، وترويج المقاطع التي تظهر وجه الاحتلال الوحشي، والتأكيد دائماً على أن فلسطين ليست مجرد قضية شعب يواجه محتلاً، وإنما أزمة صراع يهدف إلى محو مقدسات إسلامية ومسيحية تخص المليارات حول العالم، على حساب الإنسانية الفلسطينية.

كما لا يمكننا التغافل عما يؤديه العمل المنظم من تأثير واضح -ولو كان ضعيفاً في بدايته-  فنجاح حركة المقاطعة BDS في إنهاك الاحتلال وأعوانه اقتصادياً، تمثل أحد أسبابه في قوة التنسيق بين أعضاء الحركة على مستوى العالم، وعدم اعتمادهم على الشحن العاطفي والعمل العشوائي، فضلاً عن الاعتماد الكامل على دراسات استباقية، وإحصائيات واضحة قبل البدء في العمل، فالعاطفة الجياشة، والحماسة لنصرة الأقصى لا تكفي وحدها في تغيير الواقع مالم ترتكز على معلومات صحيحة وثوابت راسخة.

العاطفة الجياشة، والحماسة لنصرة الأقصى لا تكفي وحدها في تغيير الواقع مالم ترتكز على معلومات صحيحة وثوابت راسخة

وأخيراً: "لا تحقرنّ من المعروف أصغـره! أحسن فعاقبة الإحسان حسنـــــاه"، فما دام الإيمان الكامل بأن القضية الفلسطينية تخص كل عربي، وتذخر بالمعاني العقيدية لكل مسلم بل ومسيحي، فلن تنعدم سبل نصرتها عبر تطهيرها من أي استغلال طائفي أو سياسي، وحضورها الدائم في العقول مُنعسكاً على أقلام الكتاب، وكلمات المدرسين والخطباء، ومشاهد المسلسلات الدرامية والمسرحيات، والأناشيد، ونشرات الأخبار وبرامج التحليل، حتى ولو لم تنعكس سوى على صف الأنامل لحروف تبقيها حية في عالم الإنترنت، فلابد أن يحدث ذلك تغييراً.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
باحثة مصرية في شؤون الصراع العربي- الصهيوني والقضية الفلسطينية، حاصلة على ليسانس الإعلام من جامعة الأزهر بالقاهرة، كاتبة ومحررة في عدد من المواقع العربية

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …