تُعتبر صِلَة الإنسان بربه أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها الإنسان في الدنيا لو أنه أراد الفلاح فيها.
وتأتي عقيدة التوحيد لكي تكون أهم الأواصر والوشائج التي تجمع الإنسان بخالقه، وتمد بينه وبين الله عز وجل أواصر العلاقات السوية، التي تمنح الإنسان الأمان والنجاة في الدنيا والآخرة.
ومن بين أهم مشكلات المسلمين عبر العصور، هي قضية فهم عقيدة التوحيد على حقيقتها، وإدراك مغازيها الأصلية والشاملة.
فالبعض يظن –خاطئًا– أن التوحيد يعني الإيمان بالله عز وجل كإله واحد لا شريك له، وخالق واحد لا شريك له في هذا الكون، بينما التوحيد أمر أكبر وأعمق وأكثر من ذلك بكثير فيما يتعلق بمضامينه وما ينبغي على الإنسان أن يؤمن به؛ لاستكمال الجوانب المعنوية للعقيدة، وأن يفعله؛ لكي يكون فعلاً مؤمنًا بالله تعالى حق الإيمان.
ومن بين أهم هذه الأمور معرفة الخالق عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومدلول هذه الصفات.
وعلى أهمية ذلك لاستكمال كامل أركان عقيدة التوحيد، فإن البعض يقول أصلاً –مثل سيد قطب– إن إيمان الإنسان بالله عز وجل، وتوحيده له سبحانه، لا يكتمل إلا بأن تقر هذه الأمور في نفس الإنسان، وأن تعكس نظرته وتعاملاته مع كل الأمور من حوله.
ومن بين ذلك، إدراك صفات الله عز وجل كخالق للكون، وقيوم السماوات والأرض، وأنه هو القوي العزيز، وكل مفردات طلاقة القدرة الإلهية اللامتناهية، وأن يكون ما يترتب على ذلك من صفات الخالق الأعظم، وكيف يدير ملكوته، والإنسان جزء لا يتجزأ من هذا الكون.
وقد يستغرب البعض أن يعرف أنه من بين أهم سمات الإيمان الحقيقي للإنسان المسلم بهذه الأمور العظيمة، هو في لحظات الرضا واليقين بالله عز وجل.
فعند كل مُصاب يمر به الإنسان تجده يؤوس قنوط، بينما هذا في أبسط معانيه يتناقض أشد التناقض مع إيمانه بالله تعالى بهذا المعنى الواسع للإيمان، الذي يشمل معرفة الخالق عز وجل وطلاقة قدرته، وكذلك مع بند مهم في أركان الإيمان الستة المعروفة، وهي الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.
وبالتالي فإن الرضا هو أحد أهم مظاهر إيمان الإنسان بربه، وبالقضاء والقدر، وهو ما يعني أن الرضا ليس من رقائق الأخلاق والسلوك؛ بل إنه يُعتبر من أهم الجوانب العملية والتطبيقية لمفهوم الإيمان عند الإنسان المسلم.
الرضا ليس من رقائق الأخلاق والسلوك؛ بل إنه يُعتبر من أهم الجوانب العملية والتطبيقية لمفهوم الإيمان عند الإنسان المسلم
ومن بين أبرز ما يقوم به الإنسان في هذا الأمر هو شكر النعمة لله عز وجل، وحمده في السراء والضراء، وأن يسعى جاهدًا لأن يكون سليم الصدر إزاء أي ابتلاء أو مصيبة تقع له، والصبر عليها.
وهذا الكلام له الكثير من الأدلة الشرعية التي تؤيده.
فالنبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" يقول: (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له) [أخرجه مسلم].
والنبي "عليه الصلاة والسلام"، كان دقيق الحديث، ويستخدم الكلمات والعبارات في موضعها، وبقصد؛ حيث لا ينطق عن الهوى، وهو في هذا الحديث؛ قال: (المؤمن) أي أن ذلك من صفات المؤمنين لا المسلمين فحسب، والإيمان لدى بعض العلماء، هو أعلى مراتب صحة وتمام إسلام المرء.
وأول آية في المصحف الشريف، هي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، بعد البسملة في سُورة "الفاتحة"، وفي سُورة "البقرة"؛ كانت أول سمة قالتها الملائكة في حديثها مع رب العزة سبحانه للتدليل على إيمانها به، هو: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)}.
والصبر والإيمان لا يفترقان، والصبر في القرآن الكريم، هو صنو الإحسان، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سُورة "هود" - الآية 115]، وشقيق الصلاة كأحد عبادات الإنسان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سُورة "البقرة" – الآية 153].
والإيمان هو الغاية الأساسية، والمرتبة الأسمى، التي يجب أن يسعى كل مسلم إلى الوصول إليها في حياته؛ لكي يحظى بالسعادة في الدنيا وفي الآخرة، ولذلك اهتم القرآن الكريم بسمات المؤمنين والتأكيد عليها، أكثر مما عرض صفات المسلمين؛ حيث هناك سُورة كاملة باسم "المؤمنون"، تشرح صفاتهم وتدعو المسلمين إلى التحلي والالتزام بها، والوصول إليها.
وهذا في مصلحة الإنسان المؤمن الذي يلتزم بهذا ويصل إلى هذه المرتبة؛ فهو يصون نفسه من الكثير من أدران النفس، ومتاعب البدن التي تترتب عليها.
وإننا لنسمع الكثير من الأطباء يتكلمون بأن هذا المرض العضوي سببه أمر نفسي، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فإن ذلك معناه أن يُكفَّر عن الإنسان سيئاته، وأن يدخل الجنة. ولو وصل إلى مرتبة من الرضا واليقين والصبر التي دعا الله تعالى، ورسوله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، إليها؛ فإنه قد يوفَّى أجره بغير حساب، يقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سُورة "الزُّمَر" – الآية 10]، والآية واضحة وليست بحاجة إلى تفسير.
ولكنه في حقيقة الأمر ليس بالشيء السهل، والله تعالى قال ذلك: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [سُورة "آل عمران" - الآية 186]، ولذلك كان له عظيم الجزاء عند الله.
أبناء الحركة الإسلامية، هم أحوج ما يكون الآن لهذه الأمور أن يُخاطَبوا بها، وأن يؤمنوا بها، وأن يعكسوها كذلك أمام الآخرين مهما كانت الخطوب
وأبناء الحركة الإسلامية، هم أحوج ما يكون الآن لهذه الأمور أن يُخاطَبوا بها، وأن يؤمنوا بها، وأن يعكسوها كذلك أمام الآخرين مهما كانت الخطوب، ولقد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، كما قال المصطفى "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، في حديث صحيح أخرجه البُخاري.
إن الطليعة المسلمة هي واجهة الدين والدعوة، ويمكن لها أن تلعب أهم الأدوار في جذب المزيد من الناس إلى دخول قافلة النور والإيمان بالله عز وجل، أو أن تكون أكبر عامل ابتلاء للدين والدعوة، والفيصل في ذلك كله هو مثل هذه الأمور!