قُضِيَ الأمر، وأخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره بنقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني، من تل أبيب إلى #القدس، بعد عام كامل من الجدل حول هذه الخطوة التي حذر الكثيرون، ومن بينهم دوائر سياسية وحاكمة داخل الولايات المتحدة ذاتها، من خطورة مثل هذه الخطوة على الأمن والاستقرار في إقليم مشتعل بطبيعته.
وحتى الكثير من الحكومات والأنظمة التي شاركت في إجهاض تجارب ثورات الربيع العربي، حذرت من اندلاع بؤر توتر جديدة في المنطقة، وبدا ذلك حتى في مواقف حكومات عديدة في الإقليم من تصعيد الخلاف السعودي الإيراني، وقت إطلاق الصاروخ الحوثي على الرياض قبل أيام قليلة.
إلا أن ترامب يبدو أنه يريد أن يشارك في المحرقة الحالية في الشرق الأوسط؛ حيث التحذيرات واضحة للغاية من مغبة القرار الذي أبلغ به بالفعل كلاًّ من رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته، محمود عباس، والعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني بن الحسين، ورئيس الحكومة الصهيونية، بنيامين نتنياهو، مساء الثلاثاء، 5 ديسمبر.
وقبل أي شيء؛ ينبغي أن نشير إلى أن ما يجري هو مسؤولية الجميع. الجميع بلا استثناء .
وهذا ليس هجومًا على الجميع انفعالاً بالحدث الجلل – اعتراف أكبر قوَّة عظمى في عالمنا المعاصر بالسيادة "الإسرائيلية" على القدس – ولكنه على المستوى السياسي والقانوني؛ هو مسؤولية كل الأطرف.
يبدأ أمر المسؤولية من الأنظمة الخائرة التي شغِلَتْ بكرسي الحكم وقتل شعوبها لإحكام سيطرتها على ثروات هذه البلدان لصالح فئة الحكم، ولأجل ذلك قامت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني للحصول على المباركة الأمريكية والدعم الأمريكي، وصارت تنسق مع الصهاينة أكثر من تنسيقها مع شعوبها.
يبدأ أمر المسؤولية من الأنظمة الخائرة التي شغِلَتْ بكرسي الحكم وقتل شعوبها لإحكام سيطرتها على ثروات هذه البلدان لصالح فئة الحكم، ولأجل ذلك قامت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني للحصول على المباركة الأمريكية والدعم الأمريكي
الدور التالي، هو الفصائل الفلسطينية التي انشغلت بالنزاع بين بعضها البعض، وأهملت أهم قضايا الأمة التي هي مؤتمنة عليها، إلى منظمة التحرير الفلسطينية العاجزة، والسلطة الفلسطينية الميتة إكلينيكيًّا، وأصبحت شرطي الاحتلال أصلاً.
ونصل إلى الجماعات التي تقول عن نفسها إنها "الإسلامية" و"جهادية" – وهي أبعد ما تكون عن جوهر هذه التوصيفات النبيلة التي تحمل الخير للإنسانية؛ لا القتل والخراب –؛ هذه الجماعات التي ظلت لأكثر من عامَيْن مسيطرة على حدود سوريا مع فلسطين المحتلة، ولم تطلق طلقة واحدة على الكيان الصهيوني، واكتفت بقتل المسلمين والأبرياء هنا وهناك.
.. إلى منظماتنا الإقليمية التي هي عبارة عن عنوان للحكومات، وصولاً إلى الشعوب التي تفرغت إلى تخوين بعضها والاقتتال "الأخوي" بين بعضها البعض.
وهذا ليس ظلمًا لأحد، اللهم إلا لو استثنينا منه الفئات المغلوبة على أمرها، والتي لا تملك ما تحمل نفسها عليه لكي تجاهد في أقدس ساحات الجهاد؛ فلسطين والقدس.
الإطار القانوني الدولي للقدس ومخالفة القرار الأمريكي له:
في النقاش الموضوعي؛ ينبغي أولاً الإشارة إلى الجانب القانوني للخطوة الأمريكية.
الخطوة الأمريكية تخالف قواعد القانوني الدولي؛ حيث هناك العشرات من القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، تؤكد على أنه لا شرعية قانونية أو سياسية لـ"إسرائيل" – مهم استخدام مصطلح "إسرائيل" هنا للاعتبارات القانونية لأنه متمايز في الجانب القانوني والسياسي عن مصطلح "الصهيونية" – على القدس؛ بشطرَيْها الغربي والشرقي، الذي يضم البلدة القديمة والحرم القدسي وفيه المسجد الأقصى.
الخطوة الأمريكية تخالف قواعد القانوني الدولي؛ حيث هناك العشرات من القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، تؤكد على أنه لا شرعية قانونية أو سياسية لـ"إسرائيل"
وكان أحدث هذه القرارات، القرار الصادر عن لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة و والتربية "اليونسكو"، في الخامس من يوليو الماضي، يؤكد عدم وجود سيادة "إسرائيلية" على مدينة القدس، وأدان أعمال الحفر التي تقوم بها دائرة الآثار "الإسرائيلية" بالمدينة المحتلة.
أما مجلس الأمن، فقد أصدر في العام 2016م، قرارًا برقم (2334)، أكد فيه على بطلان أية إجراءات "إسرائيلية" في القدس، بما في ذلك "القانون الأساس" الذي أقره "الكنيست" الصهيوني "لتوحيد القدس كعاصمة دولة "إسرائيل" في العام 1980م، وأكد هذا القرار على قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، بما فيها القرار (478) الذي صدر في العام 1980م، ووصف "القانون الأساس" المشار إليه بأنه "يشكِّل انتهاكًا للقانون الدولي ولا يؤثِّر على التطبيق المستمر لاتفاقية جنيف ذات الصلة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب بتاريخ 12 أغسطس 1949 في الأراضي العربية والفلسطينية الأخرى المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس".
كما قرر المجلس في قراره القديم هذا "عدم الاعتراف "بالقانون الأساسي" والأعمال الأخرى المماثلة التي تقوم بها "إسرائيل" وتسعى نتيجة لهذا القرار إلى تغيير صفة ووضع القدس".
وبالرغم من تعدد القرارات التي صدرت في هذا الصدد، وتصل إلى العشرات بالفعل؛ إلا أن أساس الوضع القانوني لمدينة القدس بشطرَيْها؛ الشرقي والغربي، نجدهما في القرارَيْن (181) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 29 نوفمبر 1947م، والمعروف بقرار تقسيم فلسطين، والقرار (242) الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 22 نوفمبر 1967م.
القرار الأول، ضمَّن القدس ضمن المنطقة التي تخضع للسيادة الدولية (شملت بيت لحم كذلك، باعتبارها – جميعًا – أراضٍ مقدسة لأصحاب الديانات السماوية الثلاث)، بعيدًا عن الأراضي المخصصة للدولتَيْن العربية اليهودية في القرار، بما في ذلك، القدس الشرقية، والقدس الغربية، والبلدة القديمة التي تضم الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى.
وبالتالي؛ فإن استيلاء العصابات الصهيونية على القدس الغربية من الجيش الأردني الذي كان يسيطر على القدس بالكامل في حرب النكبة عام 1948م، غير قانوني، ولم تعترف به الأمم المتحدة، ولا أية دولة؛ حيث اعتمدت دول العالم التي أقامت علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، تل أبيب كعاصمة دبلوماسية وسياسية للدولة الصهيونية.
أما القرار الثاني؛ فلا يعترف بأية سيادة للدولة الصهيونية على القدس الشرقية أو البلدة القديمة التي احتلتها في حرب يونيو 1967م، وقال إن أساس أية تسوية بين العرب ودولة الكيان الصهيوني، هي حدود الرابع من يونيو 1967م.
وبالرغم من قيام بعض الدول، مثل السلفادور وكوستاريكا، بنقل سفاراتها إلى القدس الغربية، بعد قرار الكونجرس الأمريكي الصادر في العام 1995م، واعترف بالقدس – من دون تحديد "الغربية" أو "القدس الموحَّدة" - عاصمةً لـ"إسرائيل"؛ إلا أن القانون الدولي لم يمنح للكيان الصهيوني أية سيادة على القدس بأية صورة لها.
وبالرغم من وجود قنصليات ومراكز ثقافية لدول غربية في الشطر الغربي من القدس، مثل المركز الثقافي البريطاني، والقنصلية الأمريكية؛ إلا أنها وفق القانون الدولي، لا تُعتبر ممثليات تشمل اعترافًا قانونيًّا من هذه الدول، أو ما يُعرَف في القانون الدولي بـ"Do jour"، وإنما وفق اعتبارات الأمر الواقع لظروف تتعلق بالاعتبارات القنصلية المشمولة بالقانون الدولي الخاص، وهو ما يعرف في القانون الدولي بـ"Do facto".
ما هو الحل؟
الحل الوحيد هو انتفاضة فلسطينية جديدة، مدعومة من العرب والمسلمين كافة؛ حكومات وأنظمة .ولكن يبقى السؤال المهم في هذا الإطار، هو: هل الواقع يدعم ذلك؟!.. الإجابة مخيفة لأنها في الغالب: كلا.
ومؤشرات ذات واضحة، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى الآتي:
- التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال الصهيوني، والهجمة الأمنية ذات الطابع السياسي، والمستمرة من جانب السلطة لتأمين الضفة ضد أي احتمال انتشار الفصائل الفلسطينية بسلاحها، على النحو الحاصل في قطاع غزة، لمنع زيادة شعبيتها لمصالح سلطة الفساد والاستبداد التي تهيمن على الضفة الغربية.
- الشلل الذي أصاب الفصائل الفلسطينية، وخصوصًا في قطاع غزة بسبب الحصار الذي تتعرض له، والتضييق على مواردها المالية، ومن السلاح، بالإضافة إلى حالة "اللا مصالحة / اللا استقلالية" الحالية، وضبابية الموقف السياسي الحالي فيما يخص مسألة سلاح المقاومة وحريته في العمل بعيدًا عن سلطة "أوسلو" الملتزمة قانونًا، وسياسيًّا بحكم الأمر الواقع، بالتنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني.
- الشلل القائم على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب الارتباك السياسي للمشهد الداخلي الفصائلي الفلسطيني، واستلاب قرار المنظمة من سلطة "أوسلو" وحركة "فتح".
- انشغال العالم العربي حاليًا بصراعاته الداخلية والبينية.
- تحول الكيان الصهيوني إلى طرف يسعى الكثير من الحكومات والأنظمة لتعضيد تعاونهم معه لترجيح كفته على حساب خصومه ، بل وصرنا نسمع الآن عن حلف عربي سُنِّي "إسرائيلي" برعاية أمريكية، في مواجهة إيران!
- الشعوب العربية بطبيعة الحال، قيد الأسر والتشرُّد بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فشعوب بلدان كاملة الآن، بالذات سوريا وليبيا واليمن، قيد التهجير والقتل بآلة الحرب المحلية والإقليمية، وعشرات الملايين لا يجدون لأنفسهم مأوى، أو حتى وجبة الأمس، ناهينا عن وجبة اليوم أو غدًا، وكله موثَّقٌ بأرقام الأمم المتحدة.
وبدا أثر تلك العوامل وغيرها، في هبة الأقصى التي اندلعت في النصف الثاني من يوليو الماضي بسبب البوابات الإلكترونية وكاميرات الرصد التي نشرتها سلطات الاحتلال في الحرم القدسي وعلى بواباته وحوله؛ حيث وقف المقدسيون وحدهم تقريبًا خلال الأزمة.
ومن قبلها؛ وقف المقدسيون وربما حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي في فلسطين"، وحدهم في "انتفاضة القدس" التي اندلعت في الأول من أكتوبر من العام 2015م، وبدا من الواضح عدم وجود إسناد فصائلي، أو سياسي فلسطيني، أو سياسي وشعبي عربي وإسلامي.
ومن هذه النقطة، يبدو أن التعويل الوحيد، سوف يكون على القيادات الدينية والشعبية في القدس ذاتها، من أجل التحرك والانتفاض، وتحريك الشارع الفلسطيني في المقابل؛ حيث هو الوحيد الذي يحمل شرعية الحركة، بينما أية تحركات في الشارع العربي؛ لن تقود إلى أية نتيجة في ظل هكذا ظروف أمنية وسياسية نعرفها جميعًا عن أوضاعنا العربية، وسوف تقابل بالقمع بمنتهى الشدة.
يبدو أن التعويل الوحيد، سوف يكون على القيادات الدينية والشعبية في القدس ذاتها، من أجل التحرك والانتفاض، وتحريك الشارع الفلسطيني في المقابل؛ حيث هو الوحيد الذي يحمل شرعية الحركة
وتبقى نقطة مؤلمة لكنه لا مفر منها؛ حيث إن التضحيات البشرية هي السبيل الوحيد لتحريك الموقف الراكد على المستوى الإقليمي والدولي، وهو ما قدمه الفلسطينيون دائمًا عن طيب خاطر في سبيل قضيتهم العادلة.
ويبقى أن أولى الأولويات، كما هو مفترض؛ ألا يتم التعامل من جانب البعثات والممثليات العربية والإسلامية لدى الكيان الصهيوني مع السفارة الأمريكية حال نقلها إلى القدس، ومقاطعتها، والبدء في حملة لحث دول مظلات إقليمية ودولية متعاطفة، مثل حركة عدم الانحياز والمجموعات الأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية في الأمم المتحدة، من الدول التي لها علاقات مع الكيان الصهيوني، بمقاطعة السفارة الأمريكية في القدس.
يبقى التأكيد على الموقف القيمي الراسخ الذي لا يبدله أي قانون دولي أو خنوع سياسي أو ظروف أمنية، وهي أن القدس فلسطينية عربية إسلامية، وهو ما لن يستطيع كل شياطين السياسة والتنسيق الأمني، تغييره
وفي صريح العبارة؛ فإن واجب الوقت يقع على عاتق السلطة الفلسطينية في هذا الأمر؛ لأنها هي التي من المفترض أنها تمثل – وفق القانون الدولي، ومنه اتفاقيات "أوسلو" – فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967م، ومنظمة التحرير التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كل مكان في هذا العالم. إلا أنه تبقى عوامل الخضوع قائمة وتقول بأنه لا أمل من هذه الجهة!
وفي الأخير؛ يبقى التأكيد على الموقف القيمي الراسخ الذي لا يبدله أي قانون دولي أو خنوع سياسي أو ظروف أمنية، وهي أن القدس فلسطينية عربية إسلامية، وهو ما لن يستطيع كل شياطين السياسة والتنسيق الأمني، تغييره.
ويجب في الوقت الراهن، ضم قضية التطبيع بين بعض العرب وبين الصهاينة، لأن هذا التطبيع بالأساس يستهدف ما تبقى من روح مقاوِمة عند الشعب الفلسطيني، وشعوبنا العربية والإسلامية .