"أن يقرأ القرآن كأنه عليه أنزِل"
كثير من الآباء يرفعون هذا الشعار عند محاولة تنشئة أبنائهم على كلام الله تعالى، وهو شعار رائع –لاريب- وهو المقصد الأسمى من الإقبال على كلام ربنا تبارك وتعالى، لكنه يتضمن في طيّاته الخلاف الذائع بين ثنائيتي: حفظ القرآن وتدبره، كأن بين الحرص على إحكام الصياغة بحفظ الألفاظ مع تحصيل روح المعنى بتدبره تعارض أو تضارب!
وينقسم أصحاب هذا الهدف في رحلة تطبيقهم لقسمين:
1. القسم "التقليدي": الذي يعتقد أن الاهتمام بلفظ القرآن فقط. المهم أن تتلى حروفه وتحفظ ألفاظه وحسب، وحتى طرق الحفظ والتلاوة المعمول بها تكون من الرداءة والرتابة، بحيث يظل الحافظ كلما راجع كأنه يحفظ من جديد، فلا فقه روح الكلام، ولا حتى احتفظ بنصه في قلبه!
كثير من طرق الحفظ والتلاوة المعمول بها تكون من الرداءة والرتابة، بحيث يظل الحافظ كلما راجع كأنه يحفظ من جديد
2. والقسم "الثوري": الذي ينطبق عليه مثل من يريد اختراع العجلة من بدايتها، بدل البناء عليها وتطويرها، وهو الصنف الذي ينتشر ذات اليمين والشمال في توليف منهجيات وتجربة طرق "إبداعية"، والطريف أن كثيراً منها قد يكون مستورداً من الخارج، وحجتهم في ذلك أن الطفل ينبغي ألا يحفظ بدون فهم كالببغاء! وينتهي بهم المطاف وقد شبَّ الطفل عن الطوق، وفات من جوهر عمره التكويني الكثير، فإذا به لا فهم، ولا حتى حفظ، بل لعلّه أكثر حيرة وذبذبة في التعامل مع القرآن من الصنف الأول!
بداية، نجد أن النموذج الذي وصل لدرجة أن يقرأ القرآن كأنه عليه أنزل ليس ممتنعاً، بل عندنا فيه سابقة بالفعل، يمكن القياس عليهم واتباع نهجهم اتباعاً حقيقياً صادقاً، لا هو متحجر كالصنف الأول، ولا تائه كالصنف الثاني. وذلك النموذج لا يقتصر فقط على جيل الصحابة الذي بالفعل كان القرآن ينزل عليهم ليتحركوا به، بل على أجيال تالية من التابعين، وتابعي التابعين الذين -من حيث المبدأ- كان نزول القرآن بالنسبة لهم سابقاً للحركة به كما الحال معنا، وإن اختلفت كثير من ظروفهم عن ظروفنا؛ لغلبة المادية وعلائق الدنيا على قلوبنا في المقام الأول، ثم ضعف طلبنا للعلم الراسخ بالدين، والاكتفاء بتوارث الفهم السطحي وصور التدين.
النموذج الذي وصل لدرجة أن يقرأ القرآن كأنه عليه أنزل ليس ممتنعاً، بل عندنا فيه سابقة بالفعل، يمكن القياس عليهم واتباع نهجهم اتباعاً حقيقياً صادقاً، لا هو متحجر كالصنف الأول، ولا تائه كالصنف الثاني
لكن كل ذلك لا ينفي المنهجية الأصيلة للغرس التربوي لأي عقيدة في النفس؛ لأن النفس الإنسانية ومراحل ترقيها في المدارك هي واحدة منذ بدء الخليقة، فالطفل في سنوات عمره الأولى حتى الخامسة -تقريباً- تكوينه الإدراكي يعتمد في المقام الأول على التشرّب والتلقّي والمحاكاة. فبدلاً من محاولة عناد هذه الطبيعة، والإصرار على إفهامه ما لن يعقل حقيقةً، يتم التركيز في هذه المرحلة على تلقيه للفظ القرآن ونصه، بالحفظ المنضبط تجويداً وترتيلاً، وما يحفظه في هذه السن يرسخ رسوخ الجبال بالضرورة، ويمكن البناء السوي عليه من بعد، فإذا اتسعت مداركه بما يكفي، صارت التربة ممهدة البذور، وهنا يبدأ التفهيم الأولي لغريب الألفاظ ومعاني المفردات، مع الربط المبسّط بشؤون الحياة المختلفة. ثم حين يشتد عود النبتة تكون فترة الإيراق بتعميق فهمه للكلام، ومطالعة تفسير أولي، والإكثار من الربط بالحياة والتحاكم إليه في مختلف الشؤون، وهكذا كلما نضج في المدارك تعمق في الفهم، بكل سلاسة ومنهجية.
والميزة العظمى لهذا التحفيظ التربوي أنه ينمي لدى الطفل مدارك تلقائية وملكات فطرية، يستعصي على الوالدين إكسابها له حين ينضج بالفعل، ويتشكل طبعه لاحقاً. لعل أهمّها أن تكون اللغة عنده لساناً، وتصير أذنه قياسية، وهذه الطريقة الأساس في التنشئة على الفصحى، ثم القواعد هي صياغة لاحقة لممارسات فعلية، لذلك حين يدرس النحو لا يجده إلا تطبيقاً سلساً لما يمارسه هو تلقائياً، بعكس منهجية قصر القواعد على ألسنة معوجة، فلا ينضبط اللسان وتظل القواعد منفصمة عن التطبيق، وباللغة تنشأ لدى الطفل طلاقة الأسلوب، وقدرة التعبير، وكلما ترقى في تعلم بلاغات القرآن والحديث، وكذلك يرسخ تكوينه الفكري، وتنطلق طاقات الخيال والإبداع بما يتربى على التدبر والتفكر والربط بين الأمور. هذه كلها ملكات لا تكتسب بالتلقين، وإنما بالتربي عليها والنشأة في أحضانها، وتفيؤ ظلالها الطبيعية على الطبيعة.
فإذا لم يحفظ الطفل المتن في سنوات الحفظ، جاءت سنوات التربية والفهم على جوف خاوٍ، وكيف تنبت نبتة في أرض ليس فيها بذورها؟! وتوهم إمكانية فهم القرآن على وجهه بغير حفظ لفظه ينتج عنه ما يقع فيه كثير من الوعّاظ والخطباء من نقل كلام الله ورسوله -بالمعنى- ومهما نقل المعنى صحيحاً فهو لا يضاهي ذكر الصياغة اللفظية، خاصة ونحن نتكلم عن صياغة "ربانية"، فتأمل! ومما يؤسف له أن ساداتنا من العلماء والسلف الصالح قد أفنوا أعمارهم في حفظ كلام الله، والعناية به شرحاً وبياناً وتفسيراً، وتتبع سند كلام رسوله وتحقيقه وتوثيقه، ثم نتهاون بهذا الإرث العظيم، ويكون حظنا منه أن ننقله بالمعنى دون المتن، وحتى المعنى يكون في الغالب مستقى بالتوارث أو بالظن العام. فلا تعبّدنا لله بنص الكلام ولا حتى بمعناه!لم تنشأ إشكالية الحفظ والتدبر إلا بسبب التذبذب في الغرس التربوي للقرآن بما يتوافق مع المرحلة العمرية
ولم تنشأ إشكالية الحفظ والتدبر إلا بسبب التذبذب في الغرس التربوي للقرآن بما يتوافق مع المرحلة العمرية، فهو ليس فقط حفظاً أعمى يتحجر عند ذلك، ولا يبنى عليه بعد ذلك، ولا هو معانٍ هائمة لا قرار لها، بل هو غرس تربوي، لذلك من منّ الله عليه بهذه المنهجية ينتفي لديه هذا الإشكال، ويكون أسعد الخلق حظاً بما يحمل من كلام الله في صدره ويفهمه في قلبه، فيصدر عنه تلقائياً في أفعاله، ويستحضره ليتحاكم إليه في كل شؤونه.