نبذة عن المؤلف:
الكتاب الذي نعرض له في السطور التالية هو اسم على مُسمّى: "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، لشيخ العربية أبي فهر محمود محمد شاكر، رحمه الله تعالى. ولد الأستاذ محمود شاكر في الإسكندرية في مصر، عام: (1327هـ / 1909م، وتوفّي 1418 هـ / 1997 م). تلقَّى تعليمه الأساسي في القاهرة، ثم التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بالجامعة المصرية، واستمر بها إلى السنة الثانية، ثم تركها وتفرغ للتعلم العصامي والتأليف والتحقيق. ويتربع مؤلّفا "المتنبي"، و"أباطيل وأسمار" في طليعة مؤلفاته، ثم "القوس العذراء" و"جمهرة المقالات". ومما حققه من كتب التراث: "فضل العطاء على العسر"، و"إمتاع الأسماع" لتقي الدين المقريزي، و"المكافأة وحسن العقبى" لأحمد بن يوسف الداية الكاتب، و"جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري.
توطئة:
وأما الرسالة قيد العرض، فهي منشورة الآن في كتاب مستقل، إلا أنها كانت في الأصل مقدمة طويلة لكتابه "المتنبي". شرح الأستاذ شاكر في مقدمته استنكاره لفساد الحياة الأدبية فساداً من كل وجه، وانبرى من بعدُ يبين مداخل ذلك الفساد وبؤره التي لوثت فهمنا لتاريخنا ولغتنا وثقافتنا، ونبه على إغرامنا المهلِك بالأخذ عن المستشرقين والمستعربين والترجمة لهم بسذاجة لا تعي ما وراء السطور ولا تستبين ما يقف خلف تلك الجهود من مساع استعمارية فكريًا ونفسيًا.
محاور الكتاب:
قسّم المؤلف الرسالة إلى فقرات لا فصول، ترتكز على عدد من المحاور:
1. عرض المنهج الشاكري في التذوق الأدبي والرؤية الثقافية:
يعرّف المؤلف الثقافة على أنها "لفظ جامع يقصد به الدلالة على شيئين أحدهما مبني على الآخر. الأول- أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإدراك البين. والثاني- فروع منبثقة عن هذه الأصول الثابتة المكتسبة بالنشأة. وهي تنبثق حين يخرج الناشئ من إسار التسخير إلى طلاقة التفكير".
ومن ثم يشنّع بقوة على مفهوم "عالمية الثقافة" التي يقرر أنه إنما يراد بشيوعها ونشرها بين الناس والأمم "هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة لتبقى تبعًا لها" بناء عليه، ينبغي أن نكون أكثر رسوخًا في ثقافتنا، وحذرًا عند الأخذ عن غيرنا ما ظاهره أنه "مشترك ثقافي"، لكن جذوره لا ريب منبتة المنشأ والصلة عن جذورها، ذلك لأن "رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام، والذي هو فطرة الإنسان".
يرى محمود شاكر أن الهدف من نشر مفهوم "عالمية الثقافة" هو فرض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة لتبقى تبعًا لها
ولذلك يقوم منهج الأستاذ في التذوق على ما يسميه "أدوات ما قبل المنهج" والتي بتغيرها يتكدر صفاء المنهج والتذوق ومقاصدهما. وهذه الأدوات هي "اللغة والثقافة والهوى". فمن حيث الهوى يعارض الأستاذ مقولة ديكارت عن "لزوم تجرد الباحث من كل شيء يعلمه من قبل"؛ لأنها "خارج عن طوق البشر" إذ لا يمكن لأي كان التجرد على الحقيقة من أثر لغته وثقافته المكوّنتين له بالأساس؛ إذ هي "معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب"، ولا يستطيع الانفصام عن أهوائه "التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها". ثم يثنّي بمعارضة اتكائنا على المستشرقين والإشادة بجهودهم دون وعي لحقيقة أنهم مفتقرون لأدوات ما قبل المنهج، "والذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غيرُ قادرٍ البتة على أن يُنشئ منهجًا أدبيًا لدراسة إرث هذه اللغة، في أيّ فرع من فروعِ هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كله تبجّحًا وغطرسة وزَهوًا وغرورًا وتغريرا".
2. التعقيب على جهود المستشرقين:
وهو المحور الذي شغل الشطر الأكبر من الرسالة. فيرى الأستاذ أن مناهج المستشرقين مبتورة عن مناهجنا؛ لأن لغتهم مباينة كل المباينة للغتنا، وكذلك ثقافتهم ودينهم مغايران لثقافتنا وديننا. يضاف لذلك الداء العضال: داء الأهواء. فأكثرهم كانوا مغرضين غير متجردين ولا باحثين عن الحق بداية. فأكثر ما كتبوه إنما كتبوه لبني قومهم؛ لتشويه صورة الإسلام وأهله، فيثبطونهم عن الدخول فيه أو فهمه على وجهه. أو لخاصتهم من الساسة؛ ليطلعوهم على ما عند المسلمين من العلوم والذخائر؛ لتيسير السطو عليها أو إهلاكها في معارك الاستعمار. أو لعلمائهم ليستعينوا بها في معارك التبشير والحروب الفكرية المستمرة حتى اليوم!
3. الصراع بين المسيحية والإسلام:
وهو المحور الذي ساد بقية الرسالة، وفيه تعرض الكاتب لتاريخ متسلسل من حروب لا تهدأ، سواء على المستوى الجغرافي الاستعماري، أو على المستوى الثقافي الفكري، في ست محطات رئيسة:
• الحروب الصليبية التي أخفقت وفشِلت فشلاً ذريعًا في تحقيق أهدافها.
• فتح القسطنطينية، الذي كان أكبر صدمة ارتطمت بها أوروبا، وفتحت باب الاستعمار الفكري بالاستشراق والتبشير.
• نهضة ديار الإسلام، على يد خمسة أعلام اختارهم الأستاذ: البغدادي، والجبرتي الكبير، ومحمد بن عبدالوهاب، والمرتضى الزبيدي، والإمام الشوكاني. وشرح كيف قامت تلك النهضة، وكيف أبيدت على يد منتمين للعروبة والإسلام بمعاونة مستشرقين مبثوثين في مختلف المناصب الوزارية والسياسية والحربية.
• الحملة الفرنسية التي سمّاها "أول ثمار شجرة الحنظل الخبيثة"، وعرض لما ارتكبته في مصر من الفظائع، ومهزلة ترويض المشايخ الكبار، وكيف سرق المستشرقون كنوز تراثنا أثناء خروجهم من مصر.
• محمد علي وعهده، الذي وصفه بأنه "ثمن الغفلة"، وعرض لسعيه في إجهاض دور المشايخ ودور الأزهر، ومحاربته لنهضة ابن عبدالوهاب. وكذلك توقف عند المأثرة الكبرى لمحمد علي – كما تذكرها كتب التاريخ– في إرساله البعثات، فكشف اللثام عن حقيقة خطرها ودور رفاعة الطهطاوي في بلبلة الثقافة لا تنويرها كما يشاع، والوجه البئيس لإنشاء مدرسة الألسن المُحتفى بها.
• وختم السلسال بالتوقف عند الاحتلال الإنجليزي لمصر، ووضع التعليم في قبضة "دنلوب"، ثم ما قام به "دنلوب" من تدمير شامل للتعليم في مصر.
4. الختام:
يختم الأستاذ بالرد على من يظنون أنهم منصفون بقولهم إن الاستشراق "ليس خيراً مَحْضَاً ولا شراً محضاً". فيرد المؤلف بأن الاستشراق الذي بيّنه "لا يمكن أن يكون إلا شراً محضاً"؛ لأنه نشأ في مهد الضغينة ورضع الكره والبغضاء للمسلمين صغيراً ؛ فمثل ذلك الاستشراق لا خير ولا حق يرجى من ورائه؛ لأن الحقيقة لا ترتسم جلية إلا أمام طالب الحقيقة، وتنفِر من غيره، وأولئك لم يكونوا بحال من الأحوال طلاب حقيقة، وهم ما أُوفدوا إلا ليئدوا الحقيقة في عقر دارها.
أما المنصفون من المستشرقين فهم فئة أخرى مغايرة بل مناقضة لتلك الأولى، واستشراقهم غير استشراق أولئك، ودوافعهم وأهدافهم تتنافر مع دوافع وأهداف الفرقة المنحرفة. ذلك أن الخلفية التي جاؤوا منها لم تُغذَّ بالبغضاء والحقد المستحر ولا العداء الدفين للمسلمين، بل أولئك إنما جاؤوا طواعية طلاباً للحقيقة، الحقيقة بذاتها؛ ليستبينوا الحق لأنفسهم وأممهم دون أن تكون لهم دوافع مدسوسة. والحق لايمكن أن يستعصي على طالبه؛ لأن الحق إنما هو قائم بطالبه. فلم يكن بدعاً إذن أن يؤلف أولئك المستشرقون مؤلفات تعد مراجع منصفة عن الإسلام والمسلمين بالنسبة لأوروبا، بل بعضهم اضطلع بترجمة القرآن إلى لغته، ترجمة ما تزال معتمدة إلى اليوم. يضاف لذلك أنهم -على غير عادة أسلافهم- لم يأتوا ليعلمونا ديننا وحضارتنا، بل جاؤوا ليستبينوا الصورة الصحيحة والحق الأبلج لينقلوه لبني جلدتهم ممن قعدت بهم الظروف عن تقصّي الحقيقة مثلهم. فهم جاؤوا إذن للغايتين اللتين عدهما الأستاذ حقًا مشروعًا لهم: أن ينظروا في ثقافتنا وحضارتنا؛ ليكسبوا منها خيراً لأمتهم، أو ليناقشوا ويقارنوا بين ما كان عندهم وما تبدى لهم. ومن تكلف وراء هذين فهو في جهالة وتغرير.