تابع الرأي العام العربي والإسلامي بشغف كبير قمة منظمة "التعاون الإسلامي" التي دعت لها تركيا التي ترأس الدورة الحالية للقمة الإسلامية، عاقدين الكثير من الآمال على صدور مقررات قوية في شأن قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المزدوِج إزاء القدس؛ سواء بنقل سفارة بلاده لدى الكيان الصهيوني، إلى المدينة، أو باعترافه بها كعاصمة للدولة العبرية، وكلاهما أمر مختلف في جوانبه السياسية والقانونية، وكلاهما فعله ترامب.
إلا أن خيبة الأمل بدت منذ البداية، في ظل ضعف مستوى التمثيل؛ بعد مشاركة هزيلة لقادة الدولة الأعضاء، بوجود 15 رئيسًا وملكًا وأميرًا من أصل 57 قائد دولة إسلامية عضو في المنظمة، مع وجود دول وقفت تمثيلها على مستوى أدنى من مستوى وزير الخارجية.
وزادت خيبة الأمل مع صدور البيان الختامي، والذي لم يحتوي على قرارات مهمة، باستثناء – وفق البعض – "دعوة" دول العالم إلى الاعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، فيما رآه البعض انقيادًا لفخٍّ تكريس اعتراف منظمة التعاون الإسلامي بالكيان الصهيوني، وعلى حدود الرابع من يونيو 1967م، بما فيها القدس الغربية، بالرغم من أن الكيان الصهيوني في الأصل، قد استولى عليها في حرب فلسطين عام 1948م، زيادة على المساحة الممنوحة للدولة اليهودية في قرار التقسيم الشهير (181).
وهي نقطة شديدة الأهمية لا يجب تغافلها. فالقدس الغربية الآن وفق الأمر الواقع، وبعد ما يقرب من سبعين عامًا من وضع العصابات الصهيونية لليد على القدس الغربية و78 بالمائة من كامل مساحة فلسطين الانتدابية، ووصل الصهاينة إلى هذه المرحلة بعد مائة عام سبقت النكبة، منذ أن بدأت البعثات الأثرية اليهودية القادمة من بريطانيا والولايات المتحدة في التنقيب في أرض فلسطين، والقدس الشرقية – لم تكن القدس الغربية في حينه قد ظهرت – على وجه الخصوص.
أي أن المخطط بعيد المدى كما يدرك الجميع.
وهنا نعود إلى نقطة زمنية أقرب نسبيًّا، في منتصف التسعينيات الماضية، عندما طرحت الحكومة الصهيونية في حينه على منظمة التحرير الفلسطينية خيار تبادل الأراضي كحلٍّ لمشكلة القدس الشرقية التي ضمتها "إسرائيل" إلى القدس الغربية في العام 1967م، ثم ضمتهما معًا في العام 1980م، معتبرةً إياها "عاصمةً أبديلة للدولة اليهودية".
يقوم هذا الخيار على أساس السماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم على أراضي قطاع غزة، وما بين 97 إلى 98 بالمائة من مساحة الضفة الغربية، مع تبادل للأراضي يشمل أم الفحم ومناطق من شمال صحراء النقب، بديلاً عن القدس الشرقية، مع إقامة عاصمة الدولة العتيدة على أبو ديس، وهي إحدى البلدات التي تتبع إداريًّا محافظة القدس.
وهذه نقطة خطر كبيرة في إقدام منظمة التعاون الإسلامي على الاعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية؛ حيث يؤهل ذلك الموقف لمرحلة تالية، تكون القدس الشرقية فيها نقطة القفز التالية.
كما أن البعض كان ينتظر قرارات في حجم قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني من جانب الدول العربية والإسلامية التي تعترف بالكيان، أو دعوات صريحة لمقاطعة – شعبية على الأقل – الولايات المتحدة اقتصاديًّا، أو على الأقل قنصليًّا في داخل الكيان الصهيوني.
البعض كان ينتظر قرارات في حجم قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني من جانب الدول العربية والإسلامية التي تعترف بالكيان، أو دعوات صريحة لمقاطعة – شعبية على الأقل – الولايات المتحدة اقتصاديًّا، أو على الأقل قنصليًّا في داخل الكيان الصهيوني
كما كان اللافت أن القرار الحاسم قد غاب عن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بالرغم من أنه هو الوحيد الذي يملك – في المستوى القانوني والسياسي – أن يأخذ قرارات باسم الشعب الفلسطيني في قضية خطيرة مثل قضية القدس ومصيرها، باعتبار أنه رئيس السلطة التي تمثل وفق اتفاقية "أوسلو" الفلسطينيين في داخل الأراضي المحتلة عام 1967م، ويقود – كذلك – منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، الفلسطينيين في كل مكان؛ الداخل المحتل عام 1948م وأراضي الـ67، وفي الشتات.
البعض يقرأ الأمر من زاوية أخرى، وهي نقطة اشترك البيان الختامي للقمة مع كلمة عباس فيها، في صدد أن الولايات المتحدة لم تعد شريكًا نزيهًا في عملية التسوية، وهو ما يطرح تساؤلاً مهمًّا حول متى كان الأمريكيون شريكًا نزيهًا في أي شأن عربي أو إسلامي .
كذلك كرر عباس تهديداته بإعادة النظر في اتفاقيات أوسلو، وحل السلطة الفلسطينية وما إلى ذلك "إذا لم ترجع الولايات المتحدة عن قرارها" الأخير.
وهو كذلك ما أثار تساؤلات مراقبين حول متى سوف تلجأ السلطة الفلسطينية إلى تنفيذ تهديداتها هذه، بما فيها اللجوء إلى الحصول على عضوية المؤسسات الدولية التي يمكن من خلالها محاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه في الحروب المتتالية على غزة، وفي الضفة الغربية، وعلى رأسها قضية الاستيطان التي تخالف القانون الدولي، باعتراف مجلس الأمن الدولي ذاته في أكثر من قرار، كان آخرها القرار رقم (2334)، الصادر في 23 ديسمبر 2016م؛ بينما بالفعل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ماضيان في مخططاتهما، والتي لا رجوع فيها.
فلا يتصور أحد أن رئيس الولايات المتحدة، ولاسيما إذا ما كان شخصية مثل ترامب، وفي ظروف أزمة داخلية كبيرة يواجهها ترامب؛ سوف يعود في قراره هذا.
أي أن الوقت الآن؛ وقت تحركات، وليس وقت تهديدات .
وبالتالي؛ يمكن بالفعل فهم موقف رئيس الحكومة الصهيونية، بنيامين نتنياهو، الذي صدر في أعقاب القمة، وقلل فيه من أهمية البيانم الختامي لها.
كذلك يمكن فهم تصريح الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، الذي خرج به، الإثنين، 11 ديسمبر، وقال فيه: "نحن مستعدون لدعم الفلسطينيين في قراراتهم" إزاء الأزمة.
وهو بالفعل – اتفقت أو اختلفت على شخص أبو الغيط – تصريح يلخص الموقف. فأي طرف عاجز عن الفعل ما دامت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير خارج المعادلة.
ويمكن التأكُّد من ذلك بمقارنة بسيطة بين الوضع الراهن، وبين الموقف الذي وقع من أرييل شارون، وقتما كان يشغل منصب رئيس حزب "الليكود" الذي كان يتزعم المعارضة في الكيان الصهيوني آنذاك، عندما اقتحم ساحات الحرم القدسي الشريف، في 28 سبتمبر 2000م، وكان ذلك شرارة "انتفاضة الأقصى" الثانية.
فموقف رئيس السلطة، ورئيس المنظمة – والمنصبان متطابقان منذ تشكيل كلَيْهما – في ذلك الوقت، ياسر عرفات، كان فارقًا بالفعل في تأجيج أوار الانتفاضة، وكان إسباغه – بشخصه وبمنصبَيْه – للشرعية على الانتفاضة؛ موقفًا شديد الأهمية، وحاولت واشنطن وتل أبيب إثناءه عن ذلك، خلال مفاوضات "كامب ديفيد- 2"، إلا أنه رفض.
كذلك الحال في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اندلعت في السابع من ديسمبر عام 1987م؛ حيث كان لوجود الفصائل والدعم السياسي لمنظمة التحرير أبلغ الأدوار في كل ما تلى ذلك من تطورات.
وبالتالي؛ يقف الفلسطينيون وحقوقهم الآن أمام انكشاف كامل لأسباب مختلفة، أهمها الموقف العربي والإسلامي الرسمي، وموقف السلطة ومنظمة التحرير؛ حيث لا يمكن القول إلا بأن ذلك كله لا يصب إلا في مصلحة الكيان الصهيوني ومخططاته القديمة التي لا تزال الحركة الصهيونية وداعميها تثابر عليها، بخلاف أصحاب الحق الأصيل.
يقف الفلسطينيون وحقوقهم الآن أمام انكشاف كامل لأسباب مختلفة، أهمها الموقف العربي والإسلامي الرسمي، وموقف السلطة ومنظمة التحرير؛ حيث لا يمكن القول إلا بأن ذلك كله لا يصب إلا في مصلحة الكيان الصهيوني ومخططاته القديمة
ومن هنا، يمكن فهم أن الدعم الشعبي العربي والإسلامي لن يزيد بحال من الأحوال عن "التعاطف الساخن" الحالي، الذي لن يلبث أن يتحول إلى دائرة "التعاطف البارد"، قبل أن يطويه النسيان.
وهو أمر واضح على الأرض، حتى على المستوى الفلسطيني؛ حيث حالت ظروف الانقسام، والحرب التي تشنها السلطة على المقاومة سعيًا لتركيعها، ومن ضمن ذلك حصار غزة، من تفاعل موقف شعبي فلسطيني قوي، يرقى إلى مستوى الانتفاضة.
ولا يبقى الأمل إلا في أن يبدل الله تعالى الأمور من حال إلى حال!