شهدت البلدة القديمة في القدس المحتلة ليلة حالكة، مساء الأربعاء إلى الخميس السابع من ديسمبر؛ سادها الظلام بعد إغلاق أضواء المسجد الأقصى، وكنيسة المهد، وما حولهما من مقدسات إسلامية ومسيحية، تنديدًا بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بنقل سفارة بلاده من "يافا" في "تل أبيب"، إلى مدينة #القدس، واعتباره لها عاصمةً للكيان الصهيوني، في خطوة رسمية على طريق تهويد المدينة المباركة.
ولعل أخطر ما في قرار ترامب، هو تعميمه للاعتراف بالقدس كاملة كعاصمة للكيان الصهيوني؛ بعد أن أصبحت القدس الغربية عاصمةً للكيان الصهيوني بحكم الأمر الواقع بعد احتلال العصابات الصهيونية لها، في حرب العام 1948م، بما يعني تأييد ضم أقدس مقدسات المسلمين إلى الكيان الصهيوني.
ورغم الرفض التام لتلك الخطوة الأمريكية السافرة، إلا أنها أطلت على العالم بثوب المنطقية، من رجل أعمال أمريكي أبدى دعمه لليهود والكيان الصهيوني، منذ ظهوره على الساحة السياسية، نظرًا لارتباطه الشخصي باليمين المتطرف، ووثاقة مصالح بلاده السياسية والعقدية بالكيان الصهيوني؛ بل ربما تجسد التناقض الحقيقي في حالة "الاندهاش" العربي وما يمكن أن نطلق عليه الغياب الإسلامي، والاستنكار العالمي المفتعل من تلك الخطوة المعبرة عن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بأكمله!
وربما كانت ردود فعل المجتمع الدولي أكثر جرمًا في حق الشعب الفلسطيني، والعقل العربي والإسلامي من قرار ترامب؛ إذ استكملت الإدانات الغربية للخطوة الأمريكية سلسلة الاستهزاء بالكيان العربي بأكمله، لاسيما وأن قائمة المنددين تقدمتها بريطانيا التي يدين لها الاحتلال بغرس بذور الصهيونية في الأراضي الفلسطينية، ودعم شرعية التوسع الاحتلالي المزعومة، طيلة 100 عام.
وجاءت ردود الفعل الرسمية من الجانب العربي والإسلامي توحي بحالة من اليأس في اتخاذ أي قرار قوي من شأنه التأثير على مسار القضية، فبدءًا من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومرورًا بردود الفعل الرسمية الأخرى في العالم العربي والإسلامي، وصولاً للموقف التركي والإيراني؛ لم تخرج جميعها عن إطار التنديد والتهديد باجتماعات عاجلة، ولقاءات دولية، ومذكرات شجب واستنكار، ليس إلا.
وربما سيطرت العاطفة على حراك الشعوب العربية والإسلامية التي انتفضت إلكترونيا عبر شن الوسوم الرافضة للقرار والمؤكدة على عروبة القدس، والخروج في مسيرات ومظاهرات عفوية قادتها العاطفة في عدد من الدول العربية والغربية، فضلاً عن اشتباك الشباب الفلسطيني مع قوات الاحتلال أمام أبواب الأقصى المبارك، وعلى المعابر ونقاط الاحتكاك، في مشهد تختلط فيه مشاعر القهر والغضب واليأس من حراك حكام العرب.
قراءة حول الحدث
بالرغم من هذه الصورة؛ إلا أن المحلِّل المدقق في الأمور؛ سوف يجد أنه في الحقيقة، وبالرغم مما أثاره القرار من حالة احتقان سياسي، إلا أنه بحال من الأحوال لا يحدث تغييرًا جذريًّا واضحًا على الواقع الفلسطيني، بل يضعنا أمام حقائق سياسية حاولت الحكومات العربية التغافل عنها منذ سنين.
بالرغم مما أثاره القرار من حالة احتقان سياسي، إلا أنه بحال من الأحوال لا يحدث تغييرًا جذريًّا واضحًا على الواقع الفلسطيني، بل يضعنا أمام حقائق سياسية حاولت الحكومات العربية التغافل عنها منذ سنين
وأول هذه الحقائق؛ أن القدس، وحيفا، ويافا، وبئر السبع، وإيلات، والناصرة، وعسقلان، وأشدود، بما فيها من مستوطنات يهودية، هي في الأصل أراضٍ فلسطينية عربية، تتوجت فيها القدس ببعدها العقدي.
لذا فلا معنى للاعتراف بشرعية الاحتلال في تواجده على أي شبر فيها، وادعاء الرفض لاعتدائه على أرض القدس، فتهويد الاحتلال للأراضي الفلسطينية يقتات على الصمت العربي .
ثانيا؛ فإنه لمن العار أن يمتلك العدو الوضوح والجرأة في التعبير عن معتقداته، وقراراته، وسياسته الاحتلالية، في الوقت الذي سئم فيه العرب والمسلمون من صبر قاداتهم غير المبرر، وتنازلاتهم السياسية، واكتفائهم بكلمات الشجب والاستنكار، كردٍّ يردون به كيد الأعداء بإيمان العجائز.
من العار أن يمتلك العدو الوضوح والجرأة في التعبير عن معتقداته، وقراراته، وسياساته الاحتلالية، في الوقت الذي سئم فيه العرب والمسلمون من صبر قاداتهم غير المبرر، وتنازلاتهم السياسية، واكتفائهم بكلمات الشجب والاستنكار، كردٍّ يردون به كيد الأعداء بإيمان العجائز
ثالثا، ربما يكون الخيار العسكري لدى الدول العربية والإسلامية ضربًا من ضروب الخيال، نظرًا لارتباطاتهم الدولية، ووجود اتفاقيات سلام بين بعضهم مع الكيان الصهيوني، فضلاً عن تطور بعض العلاقات بين الدول العربية والإسلامية مع الكيان الصهيونية، لمصالح اقتصادية بل ربما وسياسية وأمنية مشتركة، قادت إلى تطبيع مستتر، وصريح غير مستتر في بعض الأحيان!
إلا أن الخيار العسكري ليس الأوحد بطبيعة الحال، فربما إغلاق السفارات والقنصليات "الإسرائيلية" في الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات بأي شكل من الأشكال مع "إسرائيل" يأتي داعمًا لكلمات الشجب والاستنكار الرسمية.
فضلاً عن ذلك؛ فإن الأوْلى هو قطع العلاقات الرسمية والخفية مع الكيان، كرد فعل على ذلك التوسع السافر في الاحتلال، أو غير ذلك من قرارات قد تؤكد أن الحراك العربي والعالم الإسلامي لا يزالا أحياء!
واجبات الوقت
لا شك في أن الاشتعال العاطفي له تأثيره على حراك الشعوب العربية والإسلامية، سواء في بلدانها أو في المهاجر، إلا أن العفوية المندفعة لابد من أن تهدأ بعد تفريغ شحنات غضبها بتلك الوقفات والمسيرات العشوائية ، وبالتالي؛ فإن هناك ضرورة لصور أخرى من العمل.
لذلك فإن البعد التنظيمي قد يكون له كبير أثرٍ في الضغط على الحكومات، وجلب انتباه الرأي العام العالمي لما قد يحدثه ذلك القرار من انفجار على مستوى العالم العربي والإسلامي.
وبالرغم مما تمثله القدس بأرضها ومقدساتها من أهمية عقدية وقومية للعالم الإسلامي والعربي، يحمل كل مسلم مسؤولية محاولة التغيير ولو بالإبقاء على المعنى الحقيقي للقضية حي في الأذهان؛ إلا أن خط التماس الأول مع الاحتلال يتمثل في الشعب الفلسطيني.
ولعل أهم واجب للوقت في هذا الصدد؛ وقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لعل أهم واجب للوقت في هذا الصدد؛ وقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني
وينبغي هنا التنويه إلى أن السلطة الفلسطينية، ورئيسها محمود عباس، لم يستخدم أية أوراق للضغط على الكيان الصهيوني أو المجتمع الدولي بشكل أكثر حدة، مثل التلويح بإلغاء اتفاقيات "أوسلو" أو حل السلطة الفلسطينية، وفي المقابل عمد إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية التي هي خصمه السياسي الأول.
كما لايمكننا إنكار أن "تعويم" الإطار الموضوعة فيه القضية الفلسطينية، يعد إحدى ويلاتها، فما تعانيه الأراضي الفلسطينية لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال نزاعًا سياسيًا، وإنما هو صراع قومي وعقدي، وهو ما يجعله يتصدر اهتمام كل عربي، وكل مسلم ومسيحي.
فتجاهل الجانب العقدي والقومي في أزمة القدس يقود في النهاية نحو تفريغ القضية من معانيها الخالدة تمهيداً لتصفيتها .وأخيرا.. لاشك أن الالتزامات الدولية تقيد الحراك السياسي العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، لاسيما وأن السلطة الفلسطينية قدمت الاعتراف بشرعية الاحتلال ثمنًا لوجودها، لذلك فلابد من فتح الطريق أمام الشعب الفلسطيني الذي لا يعاني القيود ذاتها، فضلاً عن قوة تأثير حراكه على المشهد السياسي.
وفي ظل التمدد الاحتلالي الذي يلتهم كل يوم المزيد من الأرض، ويهدم أو يستولي على المزيد من المقدسات الإسلامية والمسيحية، والتراث الفلسطيني والتاريخ العربي، فإن الاستمرار في تقويض المقاومة والتضييق على الفدائيين، ووصف الكفاح المسلح بالـ"العمل الحقير" والإرهاب، يعد ضربًا من ضروب خيانة الوطن والدين.
ففي ظل انتظار نتائج الاجتماعات الدولية والمفاوضات السياسية، قد تنجح البارودة الفلسطينية في إيقاف فيضان التوسع الصهيوني على الأراضي العربية.