لم يكن الإسناد الشعبي، ومواقف جموع الجماهير في الشارع العربي والإسلامي، وحتى في بلدان المهاجر تجاه قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني، ونقل سفارة بلاده في الكيان إلى #القدس، على الوزن المطلوب، سواء بالمقارنة مع حجم وخطورة الجريمة، أو مع تحركات الشارع العربي في مواقف سابقة، فقد كانت المشاركة أوسع بمراحل كبيرة، مع أحداث أقل شأنًا.
وفي هذا الإطار فإن هناك ملاحظة شديدة الخطورة ترتبط بهذه المسألة، وهي أن المنحنى الخاص بمسألة الإسناد هذه في سياق ينحدر إلى أسفل.
ويمكننا الوصول إلى هذه النتيجة بسهولة إذا ما قورن الحَرَاك الجماهيري وقت الانتفاضة الأولى، ووقت مجزرة الحرم الإبراهيمي، والانتفاضة الثانية، ومن قبلها هبة النفق، وصولاً إلى الموقف المتراخي من هبة القدس التي اندلعت في الأول من أكتوبر 2015م، ثم الموقف الراهن.
وفي حقيقة الأمر فقد حملت الأيام الأخيرة الكثير من التطورات التي تصيب أي مخلص صاحب قضية ورسالة، بل وصاحب حسٍّ إنساني، بالضيق والكرب.
ولعل أهم هذه التطورات، قضية مشروع القرار الذي قدمته مصر إلى مجلس الأمن الدولي، وانتهى بأن اعترضته الولايات المتحدة، من خلال حق النقض "الفيتو"؛ متحديةً العالم بأسره في هذا الصدد.
القرار –رسميًّا– كان مخاضًا لاجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الذي عُقِد في جامعة الدول العربية، يوم الثالث من ديسمبر، وخلاصة لنقاشات جلسة الاستماع التي عقدت في مجلس الأمن الدولي في الثامن من هذا الشهر، ووفق التداول الإعلامي؛ فقد كان مشروع القرار يشير إلى أنه سوف يكون لإبطال القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس، ولكن في حقيقة الأمر فإن القرار جاء خُلوًّا من هذا الكلام بالكامل.
وهناك قصة طريفة ومحزنة في هذا الصدد، وصفها البعض بالتدليس.
فالقرار في صياغته، كان في منتهى القوة، ولو كان تم تمريره بالفعل؛ لكان قد غيَّر في أمور كثيرة، إلا أنه كانت هناك فيه نقطة ضعف كبيرة، هدمته بالكامل، وهي عدم ذكر قرار ترامب أو الولايات المتحدة صراحة، مما سمح لها بالتصويت واعتراضه بحق "الفيتو".
فالميثاق التأسيسي للأمم المتحدة لا يمنح للدولة العضو في مجلس الأمن حق التصويت، إذا ما كانت طرفًا في الأزمة أو القرار الخاص بشأنها، وبالتالي؛ فإنه كان يجب أن تتم تسمية قرار ترامب الأخير، ولو الإشارة إلى عبارة "رفض الإجراء الأمريكي الأخير بشأن القدس"، وتبيان عواره القانوني، هو ما سمح بإسقاط المشروع بـ"الفيتو" الأمريكي عليه.
وفي هذه النقطة تحدث القرار بشكل عام في صياغته عن "القرارات الأخيرة"، وبالتالي حق للولايات المتحدة التصويت عليه.
في المقابل لم تبدُ قرارات السلطة الفلسطينية قوية بالقدر الكافي بخلاف كلمة رئيسها، محمود عباس في قمة التعاون الإسلامي الأخيرة في إسطنبول؛ حيث إن ما قامت به السلطة إلى الآن هو السعي إلى الحصول على عضوية عدد من المنظمات الدولية، مع "تهديد" بنقل القرار المصري العربي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكن من دون أي حديث عن الكيفية التي سوف يتم بها استغلال قرار انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو تنفيذ ما تعهد به عباس في صدد "إعادة النظر" في اتفاقيات "أوسلو" بالكامل.
على هذا النحو، تمضي السياسة العربية فيما يخص قضية القدس، من دون أن يبدو أن الحكومات تخشى من ردة الفعل الشعبية.
وهو ما يقودنا إلى نقطة الحديث الأولى، وهي تراجع الإسناد الشعبي.
ضعف تيار الإسلام السياسي، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تتصدر المشهد في مثل هذه الأحوال بالإضافة إلى حرب الأنظمة والحكومات التي شوَّهت فكرة المقاومة المسلحة من أسباب ضعف التفاعل الشعبي
وهناك عوامل عدة قادت إلى ذلك، أهمها وبشكل موضوعي: ضعف تيار الإسلام السياسي، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تتصدر المشهد في مثل هذه الأحوال مرحلة ما قبل ما يُعرَف بثورات الربيع العربي، في ظل أزمات داخلية، وعوامل تتعلق بسوء إدارة الملفات السياسية المتعددة المعروضة على هذا التيار وجماعاته، بالإضافة إلى حرب الأنظمة والحكومات التي شوَّهت –ضمن ما شوهته– فكرة المقاومة المسلحة، وأكدت على احتكارها للقرارات فيما يخص مثل هذه الأمور، بينما الشعوب غير المقيدة باعتبارات السياسة، هي الأقدر على الحركة والفعل.
وانبثاقًا من ذلك؛ فإن القيود الموضوعة من النواحي السياسية والأمنية والمالية على الجماعات الإسلامية، ومنها أهم فصائل المقاومة الفلسطينية الفاعلة، مثل حركة "حماس"، و"حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين".
وكذلك نال المقاومة الفلسطينية ما نالها طيلة سنوات طويلة من القمع في الداخل الفلسطيني، حتى فيما يتعلق بأصغر الأمور وأبسطها، مثل تنظيم فاعلية تكريمية لأسير أو شهيد!
وكلنا نعلم قرارات السلطة بقطع رواتب الأسرى وذوي الشهداء وأسرهم، من أبناء الحركة الإسلامية.
وكلها أوضاع لا تقود إلى تحركات فعالة في الداخل الفلسطيني.
أما على صعيد المجتمعات العربية والإسلامية؛ فإن الحكومات استغلت الأزمات الأمنية المندلعة في الكثير من الدول العربية في الوقت الراهن، وسقوط بعض الدول في مصاف التقسيم والتصنيف كدول فاشلة، من أجل قمع أي صوت يخرج لكي ينادي بمظاهرة إسناد واحدة.
الحكومات استغلت الأزمات الأمنية المندلعة في الكثير من الدول العربية في الوقت الراهن، من أجل قمع أي صوت يخرج لكي ينادي بمظاهرة إسناد واحدة
في المقابل فإن الشعوب العربية والمسلمة نفسها؛ تعاني الكثير من الخوف مما تراه من أحوال، لا يمكن قبول تكرارها في مجتمعات أخرى، في بلدان مثل سوريا واليمن وليبيا وأفغانستان وجنوب السودان، نتيجة الصراعات العرقية والسياسية، وغياب الدولة، وغير ذلك.
لذلك تقف الشعوب خائفة بالفعل، وحائرة أمام خيارات لا تبدو كلها ملائمة للواقع أو قادرة على التأثير.
ولعل أسوأ ألوان المسؤولية في هذا الصدد، يقع في الوقت الراهن على المجموعات المسلحة التي تتلبس بالباطل رداء الإسلام، وتطلق على نفسها مسمَّى "الجماعات الجهادية"، بينما هي لم تمارس أي "جهاد" سوى ضد المسلمين!
هذه الجماعات هي ما سمح للحكومات بتكريس حاجز الخوف لدى الشعوب، وتعليته إلى منتهى الأفق، بحيث بالفعل لا يبدو بديل الفوضى أو إسقاط هذا النظام المستبد الفاسد أو ذاك، مغريًا أو جذابًا؛ حيث الأعراض والحيوات والأموال سوف تكون عُرضة للضياع.
وكلها أوضاع مؤسفة، ولا يبدو في الأفق أية إمكانية لأي حل قريب من هذه الجهات.
ولكن، يبقى التأكيد على عدة نقاط؛ لكي لا نُتَّهم بالتشاؤم والسلبية:
النقطة الأولى- هي إرادة الشعب الفلسطيني التي أثبتت صلابتها تمامًا، والاستمرار في التضحية لأجل القضية في الداخل، بالحجر وبكل الوسائل المتاحة، وفق آليات المقاومة الشعبية، وفي مختلف المحافل الدولية، بالكلمة والموقف السياسي.
إرادة الشعب الفلسطيني التي أثبتت صلابتها تمامًا، والاستمرار في التضحية لأجل القضية في الداخل، بالحجر وبكل الوسائل المتاحة، وفق آليات المقاومة الشعبية هي الكفيلة باستمرار التفاعل مع القضية
النقطة الثانية- أن هذا المشار إليه بأعلى، لو تم تنفيذه بفاعلية فإنه سوف يلزم السلطة الفلسطينية –وهي الطرف المسؤول قانونًا عن أي شيء– بأخذ خطوات أكثر جدية أو فاعلية.
النقطة الثالثة- هي سلاح المقاطعة، وهو سلاح كما قال عباس شومان، وكيل الأزهر الشريف، إنه ليس بحاجة لقرار رسمي، وعلى العكس فهو أقرب الآليات لمفهوم المقاومة الشعبية.
هذه النقاط الثلاث يمكنها –لو تمت إدارتها بشكل مناسب على المستويَيْن الإعلامي والسياسي– أن تقود إلى تحريك الموقف، من دون أية أمانٍ أو طموحات زائدة!