في شهر ابريل من عام 2008، أطلقت الطائرات الصهيونية صاروخاً على مجموعة من الشباب الفلسطينيين شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة، فاستشهدوا جميعا إلا واحداً، كان نصيبه البقاء على قيد الحياة لكن (بنصف جسد)، وكأن الله يختبره: إما أن يكون محفزاً لغيره على مواصلة الجهاد والمقاومة ضد من فعلوا به ذلك، أو يكون عاملاً مثبطاً لغيره بأن من يفكر في إيذاء "إسرائيل"، سيصبح في أحسن الأحوال _ إن لم يمت_ نصف جسد.
لكن مشيئة لله اقتضت أن يكون نصف الجسد عاملاً محفزاً وملهماً لنفسهِ ولغيرهِ على مواصلة الحياة بعذاباتها وعذوبتها، فاستمر "نصف الجسد" في الحياة متسلحاً على صعابها بالأمل و المثابرة بأن ما عند الله خير وأبقى، وبقى كذلك حتى سمع نداء القدس فقال: (لبيك يا قدس) ورغم معرفته بأنه معذور إن لم يلب النداء، إلا أنه قال: (نحن شعبٌ أرضنا أمٌ نلبي ما تشاء) فذهب نصف الجسد إلى حيث ميدان المواجهة، ورفع علم بلاده، وشارة النصر، وأشار بأن "القدس لنا لا للظلمة".
لكن جنود الظلم المدججين بالسلاح، والمختبئون خلف تلالٍ رمليةٍ تقيهم حرارة الشمس وحرارة الغضب الفلسطيني، لم يرق لهم أن يتحداهم " نصف جسد" وهم يحملون سلاحهم القوي، فاطلقوا عليه النار، فلحق نصفه الثاني بنصفه الأول، وحصل ابراهيم أبو ثريا على لقب الشاهد والشهيد، وهنا يُطرح سؤال: لماذا قتلوا نصف الجسد؟
أمام هذا المشهد الذي يبعث على الفخر وعلى الحزن في ذات الوقت، تساءلت الكاتبة "الإسرائيلية" "عميرة هاس" في مقالها المنشور في صحيفة "هآرتس" العبرية بعنوان (الشجعان والخائفون) ما هو الخطر الذي كان محدقاً بهم من إبراهيم أبو ثريا؟
لقد برز من بين جمهور المتظاهرين: مقطوع الأرجل، يسير على كرسي متحرك أو ينزل منه ويتقدم بمساعدة صديقيه بسرعة على الكثبان الرملية باتجاه الشرق، هل شجاعته وغياب الخوف الذي أظهره استفز أحد الجنود في الجانب "الإسرائيلي" من جدار الفصل؟
إجابتي على سؤالها: نعم، شجاعة نصف الجسد ارعبتهم!!
إن قصة ابراهيم أبو ثريا تقتضي منا القفز عن فكرة ضرورة سلامة الجسد، كي تكون نفسية الإنسان في أعلى مستوياتها، لأنه لو قيست الأمور بالأحجام لفازت البهائم، بل علينا الوقوف عند خصائص القوة النفسية التي يمتلكها نصف جسد ليقول كلمته في ميدان الدم.
إن قتل ابراهيم أبو ثريا هي رسالةٌ قاسيةٌ من الاحتلالِ بأنه حتى "نصف الجسد " لن يسلم من رصاصنا، يجب أن تدفعنا هذه الجريمة للخروج من الإطار المألوف للتعبير عن غضبنا، واستثمار هذه الجريمة قانونياً ودولياً باعتبار أن الشهيد ابراهيم معاق جسدياً وأعزل ولا يشكل خطرا على أحد، وهنا استشهد وأختم بما كتبه الكاتب والصحفي "الإسرائيلي" المعارض للاحتلال "جدعون ليفي" في صحيفة "هآرتس العبرية" في مقال بعنوان (لعدم وجود أرجل.. أطلق القناص النار على الرأس) (من السهل تصور ماذا كان سيحدث لو أن الفلسطينيين قتلوا إسرائيليا على كرسي متحرك، لثارت الدنيا، كم من الكلمات كانت ستكتب عن قساوتهم وبربريتهم، كم من الاعتقالات كانت ستنفذ وكم من الدماء كانت ستسفك كرد على ذلك؟).
وهنا أتساءل : لماذا لا تبادر القيادة السياسية الفلسطينية إلى حمل هذا الملف وملفات اخرى وطرق أبواب المؤسسات القانونية الدولية خاصة أن الأمم المتحدة قالت إن استهداف أبا ثريا "صادم" ويستدعي تحقيقاً محايداً ومستقلاً؟ أم أن دماء شعبنا أرخص من أن يتعب من أجلها القادة السياسيون؟