العيش في ربوع وطن يجثم الاحتلال على صدره، كالصخرة على صدر بلال في رمضاء الصحراء، يجعلك تعيش بمراحل مختلفة من الطفولة والشباب والشيخوخة كلياً عن تلك المراحل التي يحياها البشر في ربوع بلادهم آمنين سالمين، بل وجود دخيل على أرضك يفرض عليك أن تكون استثنائياً منذ ولادتك، فإن كان الأطفال العاديون يولدون ويلتقمون صدور أمهاتهم؛ ليرضعوا اللبان التي تغذي أجسادهم، فإننا في أوطان عانت وقاست الأمرّين من الاحتلال، نرضع لباناً ممزوجة بالدم والدمع، فيزرع فينا حب الشهادة، وعشق الموت في سبيل الله مقبلين غير مدبرين.
على موائد العز تعلّمنا قيمة الموت في سبيل الله ومكانة من يرتقي شهيداً، فزرع فينا الذين قضوا في سبيل الله والأحياء الذين يقتفون أثرهم أنّ أسمى الأماني هو الموت في سبيل الله، فأصبحت هذه الأمنية النّفَسَ الذي يتردّدُ في صدورنا شهيقاً وزفيراً، ننظر لأولئك الذين سبقونا وكأنهم كواكب مضيئة في عتمة الليل نستأنس ونستضيء بأنوارهم في عتمة الزمن، نرقب سطوعهم كما نرقب هلال الشهر الكريم، ونحن نتقلب بين الغبطة لما صاروا إليه والحسرة على تأخرنا عن مواكبهم، وبقائنا في حدود الزمان والمكان!
لكن ماذا عن الحياة في سبيل الله! هذه الحياة التي غابت معالمها عن كثير منا حتى أولئك الذين يرتقبون الموت في سبيل الله، فقد غفلنا عن معالم الحياة في سبيل الله في زحمة ارتقابنا بشغف وظمأ لأسمى أمانينا الموت في سبيل الله.
لقد غفلنا عن معالم الحياة في سبيل الله في زحمة ارتقابنا بشغف وظمأ لأسمى أمانينا "الموت في سبيل الله"
الموت في سبيل الله، ما أسهل تحقيقها من أمنية في بلاد باتت عروشها حكراً على الطغاة، وأداة للاستعمار، فقد أصبح الموت في بلادنا كشربة الماء؛ إذ ما عليك إلا أن تحسن وضوءك، وتجدد نيتك عند كل خروج لك من المنزل؛ إذ وقتها لا تدري أيهما أسبق إليك رصاصة العدو بزيّه العسكري، أم رصاصة بني جلدتك الأداة الخفية للمحتل!
وتبقى معالم الحياة في سبيل الله -سلوكها والثبات عليها في زمان مثل زماننا- أصعب بكثير من تحقيق الموت في سبيل الله، فأن تبقى راسخ القدمين في معركة الحياة اليومية، والناس يميلون حيث مالت الرياح، أن تبقى كما الجبل الأشم ثابتاً على قيمك ومبادئك، في وقت يأكل الناس ويشربون بمبادئهم وقيمهم التي لا تعرف ثباتاً، فهذا أصعب بكثير من الموت في سبيل الله في زماننا، أن تجوع وتعرى وتتشرد في برد الشتاء، وحر الصيف، ولا تتنازل عن معتقداتك! أن تقول كلمة الحق في وقت يتغنى به الناس، ويغازلون الباطل، هذا أشقّ على النفس من تلقي الرصاصة في الصدر!
أن تبقى راسخ القدمين في معركة الحياة اليومية، والناس يميلون حيث مالت الرياح، و أن تقول كلمة الحق في وقت يتغنى به الناس، ويغازلون الباطل فهذا أصعب بكثير من الموت في سبيل الله
أن تكون من القلة التي تعرف الحق وتلزمه، وتقف في وجه الطاغوت عاري الصدر إلا من إيمانك الذي يضيء لك، في وقت يتخبط الناس به في ظلمات الظلم، والتعايش وفق قوانينه وشروطه، وكان حديث المصطفى دليلك في عتمتك، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك أنت ظالم فقد تودع منهم)[ مسند الإمام أحمد بن حنبل]. إنّ من معالم الحياة في سبيل الله أن تلتزم صلاتك فتؤديها كما أمر مولاك، فتنهاك عن الفحشاء والمنكر، في وقت يكثر به أولئك الذين يخرجون من بيوت الله وقد حافظوا على الصلوات الخمس فيها، ولكنها لم تردعهم عن ظلم، ولا افتراء، ولا عن متاجرة في دماء وأعراض ومقدسات الأمة!
وما أعظم الحياة في سبيل الله، بل ما أثقلها عندما يكون الطغاة كغثاء السيل، فتقف تجاهد وتجابه بكلمة الحق في وجه الطاغوت، فيتمثل بك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر([سنن أبي داود]، في الوقت الذي آثر به الكثيرون أن يكونوا كما قال السلف الصالح عنهم: "الساكت عن الحق شيطان أخرس"، فكم من ساكت عن الحق رضي أن يكون شيطاناً أخرسَ في سبيل حفاظه على منصبٍ أو مالٍ أو مكانةٍ ، بل ليته بقي شيطاناً أخرس! بل أصرّ أن يهبط إلى أدنى درجات الانحطاط والسقوط؛ ليكون شيطاناً ناطقاً يعين على قتل الأبرياء، وتدنيس المقدسات، والنجاة بالنفس ولو هلك الآخرون، وقد غاب عنه حقيقة قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة}[سورة الحجرات: آية10]، وغفل بل تغافل عن قول الرسول الكريم: (المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)[صحيح مسلم].
فالحياة في سبيل الله أثقل على النفس وأشد من الموت في سبيل الله، فجهاد العدو والطواغيت له صولات وجولات، وجهاد النفس وإلزامها الحياة في سبيل الله دائم مادام الصدر يهبط ويعلو شهيقاً وزفيراً ، وهل قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[سورة الأنعام: آية162] إلا خلاصة لكامل حياة الإنسان من مبدئه حتى منتهاه؟!