بدأت هذه الأزمة مع الاحتلال الفرنسي، حين اكتشف المصريون الهوة السحيقة التي فصلتهم عن أوروبا. رأى المصريون الأسلحة الحديثة التي جلبها الفرنسيون وتقدمها. رأوا الطابعة وكيفية إنشاء الصحف. رأوا التخطيط الحربي والجرأة على غزوهم في عقر دارهم.
وهكذا بدأ انعدام الثقة بالنفس وانعدام اليقين. بدأ الإعجاب بكل ما هو غربي، لكنه لم يكن واضحا في ذلك الوقت. وتوالت محاولات الاحتلال حتى نجحت بريطانيا في الغزو العسكري لمصر أكثر من سبعين سنة، استنزفت فيها البلد ونهبت خيراته لإثراء امبراطوريتها.
وهكذا توطن الاحتلال في العقل الجمعي لشعوب المنطقة. فأصبح الإعجاب بكل ما يأتي من الاحتلال أمرا طبيعيا. وأصبح مفهوم العقيدة والنصر غامضا في قلوب الكثير.
والحقيقة أن الانهزام العسكري لم يكن وليد صدفة، بل كان نتيجة الانكسار الروحي والخمول الفكري الذي امتد لعقود وقرون. هذا الخمول هو الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته عندما قال: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ). رواه أحمد (4987) وأبو داود (3462) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
ثم تعززت أزمة فقدان الهوية بالغزو الثقافي الذي لبس ثوب الحرية والفن والإبداع، وما كان سوى احتلال ثقافي وفكري. وقد تمثلت نتائج ذلك الغزو الثقافي والاقتصادي البديل عن الغزو العسكري، في مسلمين أصبحوا لا يكادون يفهمون من دينهم إلا تمائم أو شعائر. وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمراً غريبا يشمئز منه المسلمون مع أنه من مسلمات دينهم!
والحل كما جاء في طرف الحديث "حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ".
لن ينكشف ما نحن فيه إلا بالعودة إلى ديننا وقيمنا الأصيلة. لن ينكشف إلا بإحياء الضمير في معاملاتنا، والامتناع عن السرقة والرشوة وأكل الحرام. لن ينكشف إلا باعتزازنا وعملنا لديننا. فإذا توافر ذلك، دفعنا إلى الإبداع والاختراع والتقدم والمنافسة في عالم يتسلح بالمادة، ولا يعرف غير القوة لغة للحوار.