في قصة فيلم مستوحى من رواية "سايلاس مارنر" لجورج إيليوت، يُمْنَى سايلاس بأكبر خيبة أمل في حياته عندما تخبره زوجته أن الطفلة التي حبلت بها ليست ابنته، بل هي ثمرة صلة بينها وبين صديق له. فيترك سايلاس مهنته ويسافر لجهة أخرى ويعيش في عزلة عن الناس ومخالطتهم، إلا ما يكون من التكسب من مهنة النجارة التي برع فيها.
وكان له عادة غريبة بتقاضي عملات ذهبية بدل النقود المحلية؛ لأن قيمتها تعلو مع الزمن، وهو يدخرها ليشتري له منزلاً. فصار أهل القرية يتناقلون الحكايات عن ثراء ذلك العجوز البخيل المنعزل. ثم تكون الطامة الكبرى الثانية حين يزور المدينة شاب فاسد، تطرق مسامعه قصة ذلك العجوز، ويرى فيه نَهبًا سهلاً إن صدق أمره. وبالفعل سرق الشاب ثروة سايلاس في غفلة منه في ليلة ضبابية شاتية، ولم تستطع الشرطة العثور عليه أو على الذهب المسروق، فغرق سايلاس في نوبة اكتئاب حاد وسخط عارم على حظه التعس وقدره الجائر!
وتستمر أحداث القصة حتى تبلغ ذروة جديدة بوقوف طفلة تائهة على باب منزله، ماتت أمها في حادث قريب من موقعه. وبعد مداولات مع عمدة القرية يحتفظ سايلاس بالطفلة باعتبارها هدية السماء؛ لتعويضه عما أُخذ منه. وتكبر الطفلة في أحضانه، ويتفتح هو بنضوجها وتتغير طباعه وهيئته وتتحسن نفسيته وعشرته. حتى تبلغ البنت السادسة عشرة من عمرها، فيفاجأ سايلاس بالوالد المجهول يعود ليطالب بابنته! وتقوم بين سايلاس وبينه مداولات قضائية، تكاد المحكمة تقضي فيها بالبنت لوالدها الأصلي؛ لأنه أشد ثراء وأوسع يسراً من سايلاس، وبالتالي أقدر على تحمل نفقات رعايتها وتزويجها كما يليق.
ويُقدَّر أنه في يوم إصدار الحكم يدخل المحكمة مفتش يخبر القاضي بعثورهم على جثة شاب وقع من منحدر، ومعه كيس عامر بالعملات الذهبية، الخاصة بسايلاس في قضيته المعروفة. وإذ يجد القاضي تساوي الغريمين في المقدرة المالية، وتفوّق سايلاس برغبة الشابة في البقاء معه، يقضي له بها على الوالد الأصلي.
لا يملك المشاهد –خاصة إن لم يكن طالع الرواية ليتوقع الأحداث– إلا أن يتعاطف أشد التعاطف مع العجوز في مشهد سرقة ذهبه، والبؤس الذي صار هو عنوانه، مع أنه لم يكن له في الحياة أرَب إلا أن يُترَك وشأنه! ثم إذا بلغ مشهد العثور على ذهبه المسروق، في التوقيت الذي كان بأشد الحاجة له، والفرح العارم الذي كلّل مُحيّاه وابنتَه، ضرب كفاً على كف، وهو يتأمل في عجيب تصاريف الأقدار ومؤاتاتها!
لكن ابن آدم يأبى إلا أن يحاكم القدَر –ومُقدِّره تبعًا– لفهمه المتحجر ونظره القاصر، فيسخط حيث أمر بالصبر، ويرضا حيث لا يعود الرضا إيماناً بالغيب بل استدلالاً بالعِيان.
ابن آدم يأبى إلا أن يحاكم القدَر –ومُقدِّره تبعًا– لفهمه المتحجر ونظره القاصر، فيسخط حيث أمر بالصبر، ويرضا حيث لا يعود الرضا إيماناً بالغيب بل استدلالاً بالعِيان
وما تأملت في مدى إحكام التدبير الربّاني وكيف يُسلِم بعضه لبعض في مختلف المجريات، إلا استحضرت مثال لوحات الفسيفساء، التي تتطلب بالًا طويلًا وصبرًا عارمًا لإتمامها، لا يؤتاهما إلا ذو يقين بجمال ما سيتشكل عنها حين تجتمع بعد أمد. لكنك حين تنظر لقطع الفسيفساء الدقيقة في البداية لا تراها في جزئياتها وانفصالها، كما تراها في الصورة الكلية الكبرى بعد أن تجتمع مع أخواتها.
لكننا كثيرًا ما نتعامل مع القدر بالمنظور الجزئي، فنُصدر الأحكام الكلية عليه من واقعة أو جزئية منفصمًا عن سياق كامل . ثم حين نُكرَم بالوصول لمرحلة نرى فيها كيف تشابكت الخيوط جميعًا لتشكل اللوحة، ننسى أن نقف عندها لننبهر بعجيب الإحكام، ونسبح بحمد الله الواحد القهار، الذي جعل لكل شيء قدْرًا وقَدَرا. فعجبًا لمن يغفل عن التفكر في مبلغ إحكام التدبير الرباني وشهود آياته؛ لخلل في يقينه بوجوده من قبل.
وأعجب منه مَن يشهد يد الله تعالى في أرضه، ثم ينسبها لغيره! كيف لا يطيش عقله؟! (على فرض أن له عقلاً، من حيث سواء الوظيفة لا تواجد العضو).
عجبًا لمن يشهدُ يدَ الله تعالى في أرضه، ثم ينسبها لغيره! كيف لا يطيش عقله؟! (على فرض أن له عقلاً، من حيث سواء الوظيفة لا تواجد العضو)
وإذا كانت تلك رواية "أجنبية" حيث مفاهيم العجم للقدر والغيب غير مفاهيمنا لها (أو كذا يفترض!). فدوننا سورة الكهف التي أوصانا نبينا عليه الصلاة والسلام بتلاوتها كل جمعة لتكون لنا نوراً. أنبأنا ربنا تبارك وتعالى بخبر عبده ونبيه موسى؛ ليجعله لنا آية لعلنا نعتبر فنحسن الجواب من بعد.
كم سترى من مشاهد لا يصبر عليها ناظراك، ويقع معك من وقائع لا يبلغها فهمك الحالي! فالمطلوب منك أن تحاكم بصرك القاصر وفهمك المحدود لحسن ظنك بالله ويقينك فيه بما هو أهله، وتتأدب عند حدودك كعبد مع سيدك الرب.. {سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم}.
لكننا بجهل وعنجهية وسوء أدب نخلط مقام العبد ومقام الرب، فنتظلم من الله لا إليه، ونشكو تقديره لا ضعفنا، ونطالبه بتغيير تصريفه لما يوافق ما نرى أننا نستحقه من "معاملة أحسن"!
سبحان ربي!
لو وضعنا أنفسنا في حجمها وأنزلناها منزلتها بداية؛ لاستحضرنا استحضار العبد المملوك أن السيد المالك يتصرف كيف يشاء في ملكه ولا يُسأل عما يفعل، سبحانه! ولو يُهلك الله الكونَ كله بصالحيه وطالحيه ما كان لمخلوق أن يعترض على مَلِك يفعل في مُلكه ما يشاء، وخالق يفعل بما خلق ما يريد! إننا نقبل في معاملاتنا البشرية عبارة كــ "المدير عايز كده"، ونخرس -وإن على مضض- متقبلين اختلاف المنازل الاجتماعية ومسلّمين بتفاوت المقامات والرياسة!
إننا نقبل في معاملاتنا البشرية عبارة كــ "المدير عايز كده"، ونخرس -وإن على مضض- متقبلين اختلاف المنازل الاجتماعية ومسلّمين بتفاوت المقامات والرياسة!
سبحان ملك الملوك! على أرضه وفي ملكه ومن رزقه، ونتبجح ونتطاول –بالقلوب قبل الألسِنة– بالشكوى والأنين ومناحة التظلم وسرادق الرثاء، ولا نتقبل أن لله أن يفعل في ملكه ما يشاء، ويأخذ ويدع من خلقه ما يريد، ويرزق كيف يقسم... إننا لا نتقبل على الحقيقة أن الله "لا يُسأل عما يفعل"، ثم ندعي الإيمان بالله رباً مطلقاً، بل نكرر ببلادة أننا رضينا به رباً بعد أن سلمنا له! فأين التسليم بداية ليكون الرضا نهاية؟!
ونزعم أننا ندعو الله دعاء الضعيف العاجز، وإنما هو نفْثُ متأففٍ سَئِمَ فِعلَ ربه فيه! ونُعلِن أننا نسلِّم لله، وحقيقة الحال في القلب تخاذلُ فاقد الأمل من العدالة السماوية كما الأرضية، فكل شيء عنده سِيَّان! ونزعم بألسنتنا أننا نحسن الظن بالله، وما نحن إلا في امتحان مع ربنا نترقب منه متى يرد النقمة نعمة ويعوضنا ما أذاقنا، فنوقن وقتها بأنه –تعالى- كان عند حسن الظن به!
ولو فقهنا -بعض فقه- لعلمنا أن حسن الظن بالله يعني اليقين التام به تعالى، بما هو أهله، بالغيب . أي قبل أن تفهم وقبل أن ترى، بل سواء فهمت ورأيت أم لا! يقينك بالله مستمد من الله الثابت الذي لا يتبدل ولا يتحول، وكل ما عداه من حال ومن نفوس تتبدل وتتحول.
- "إن كان قال فقد صدق"
- "صدق الله وكذب بطن أخيك"
- "سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير"
- "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم"
والتسليم لله لا ينافي إصلاح السعي أو مراجعة النفس في تقصيرها، هذه كلها مساحة حركة العبد في عبوديته، وإنما الكلام على ما يكون من تصرف العبد تجاه ربه خاصة في مسالك قلبه. فهذه جهة وتلك جهة، والعاقل من يَفُك جهتي النظر ويفصل الملفات.
والخلاصة أن المؤمن متى نازعه فهم الأقدار، استمد العون من مُقدِّرها موقنًا إجابته، وتأدب بالتسليم لله في ملكه وتدبيره كيف يشاء. وغيره يَكِد فإن نازعته الأقدار قنَط، ووُكِل لنفسه في حِملها ومات بغيظها.. وكلُّ من حاله مع الله يذوق.
ولن يكون في كل حال إلا ما يشاء رب الحول والطول.
فأسْلِم تَسْلَم.