قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [سورة المؤمنون].
لقد حدد الله للإنسان مهمة واضحة منذ أن خلقه، وسخر له هذه الأرض ليكون خليفة وفيها؛ يعمرها وفق شرع الله، وبعث الرسل حماة لمنهج التوحيد الذي يضمن نقاء هذا الاستخلاف والاستعمار: فكلما حادت البشرية عن منهج الله.. نهض الرسل الكرام وأتباعهم من المؤمنين العظام لتصويب الأوضاع ولتحديد اتجاه البوصلة.
حتى إذا وصلت البشرية إلى مرحلة الوعي والاستعداد المناسبة، بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن الكريم؛ ليكون المرجع الأول والمنطق النهائي الذي يضمن تأطير سير البشرية في مسالك الاستخلاف والاستعمار وفق منهج الله.
ولقد فهم الصحابة الكرام هذه الرسالة، واستوعبوا هذا المنهج، فانطلقوا يجوبون الآفاق حاملين الفكرة العالمية التي قررها القرآن الكريم.
*فما طبيعة هذه الفكرة وما مصداقها؟
1 ـ المشروع: وهو فكرة عالمية حدد القرآن الكريم معالمها، وبدأ الرسول الكريم بتنفيذها. وتتلخص أهدافها: بتحرير الإنسان في - كل الأرض - من العبودية لغير الله، وبناءِ منظومة أخلاقية راقية، وإقامةِ مجتمع حر، ونظام اقتصادي عادل، وذلك عن طريق تأسيس دولة مركزية عالمية.
هدف المشروع الإسلامي يتلخص بتحرير الإنسان في - كل الأرض - من العبودية لغير الله، وبناءِ منظومة أخلاقية راقية، وإقامةِ مجتمع حر، ونظام اقتصادي عادل، وذلك عن طريق تأسيس دولة مركزية عالمية
2 ـ البعد المكاني: وعلى طريق تأسيس النظام العالمي العادل جعل الخليفة الأول أبو بكر الصديقُ المدينةَ المنورة عاصمةً سياسية بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد، فأوجد مكانًا على الأرض يستوعب تطبيق المشروع، وذلك بعد استقرار جزيرة العرب وتأسيس كيان مركزي واحد فيها بعد انتهاء حروب الردة.
3 ـ البعد الزماني: وقد اعتمد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عام الهجرة النبوية كبداية لتأسيس تاريخ الأمة الإسلامية، فهو يعلم أن الأمة القوية المستقلة تنفرد بتاريخ لها تعتز به وتتميز عن غيرها، وتم ذلك بعد تحجيم النفوذ الروماني البيزنطي، والقضاء على الدولة الساسانية الفارسية.
4 ـ المرجعية الواحدة: ولما خاف الخليفة الثالث عثمان بن عفان من اختلاف الناس بعد التوسع الكبير لرقعة الدولة، وبعد دخول الناس في الإسلام أو في حماية الدولة أفواجًا، وجد أن توحيد المرجعية هو ضرورة لاستمرار المشروع؛ فأمر بنسخ القرآن الكريم عن المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق، ووزعه على البلاد والأمصار، ليؤسس لمرجعية واحدة معتمدة لجميع الناس.
وهكذا.. استطاع الجيل الأول أن يقطع شوطًا كبيرًا في سبيل تحقيق الفكرة العالمية والقيام بواجب الاستخلاف والاستعمار في الأرض.
على أن الإسلام ما زال ينبض بالتقدم، وينير دروب العدل والحرية لمن أراد أن يتقدم نحوه؛ فالإسلام لم يستنفد أغراضه، وعلمُ الله أحكم من كل الظنون.
قال الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [سورة المدثر]
وبناء على الأسس التي وضعها الخلفاء الراشدون، وعلى الأحداث التي حدثت في عصرهم، بدأت الحركة الفكرية والسياسية والعلمية تتبلور، وبرزت المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية، ما جعل الأمة الإسلامية حاضنة للتنوع ومستوعبة للاختلاف.