يتناول الناشط السياسي والمفكر السوري، الدكتور لؤي صافي في هذا الكتاب، إحدى أهم القضايا التي شُغِلَ بها العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وبدء تشكُّل نظام عالمي جديد أكثر سيولة وانفتاحًا، وهي قضية الحوكمة وقواعد الحكم الرشيد، وعلى رأسها الشفافية والمحاسبة (مكافحة الفساد)، والتداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة والسلطة بشكل عام؛ لتحقيق مبدأ المساواة والمواطنة.
وكان غياب هذه القواعد عن العالم الإسلامي أحد أهم العوامل التي ساهمت في أن تتحول الكثير من بلدان الأمة إلى دول فاشلة؛ حيث هناك ست دول من بين قائمة الدول العشر الأكثر فشلاً في العالم، منها: الصومال وأفغانستان وباكستان ونيجيريا والسودان.
وكان ذلك قبل اندلاع ثورات الربيع العربي؛ حيث دخلت سوريا وليبيا واليمن، هذه القائمة بامتياز.
ويبدأ الكتاب الذي جاء في سبعة فصول، بتحديد المفاهيم الأساسية التي يتناولها، في السياق العام، قبل أن ينتقل إلى التخصيص على التطبيق في الحالة الإسلامية وضرورته.
ويقول إن الرشد السياسي هو منظومة من الإجراءات والمبادئ ذات الطابع الكُلِّي، والمعايير السياسية والاجتماعية والقانونية، التي تجعل الحياة في أي مجتمع تسير بالشكل الذي يضمن أن تنتقل إلى المستقبل في صورة أفضل، وتحقق أهدافها في التنمية والاستقرار المجتمعي.
الرشد السياسي هو منظومة من الإجراءات والمبادئ ذات الطابع الكُلِّي، والمعايير السياسية والاجتماعية والقانونية، التي تجعل الحياة في أي مجتمع تسير بالشكل الذي يضمن أن تنتقل إلى المستقبل في صورة أفضل
ويحدد المؤلف الإنسان ومصالحه كمركزية مهمة في هذا الصدد؛ حيث إن الإنسان هو المستهدف الرئيسي بتحسين مستوى الأداء المؤسسي والسياسي وغير ذلك، في أي مجتمع، باعتبار أن أهم أهداف أي نظام سياسي نشأ عبر التاريخ الإنساني، هو تحقيق رفاه وأمن شعبه، وضمان أن يكون الغد أفضل من اليوم بالنسبة له.
والكتاب بالرغم من أنه تنظيري، إلا أنه شديد الأهمية في المجال التطبيقي؛ حيث إنه لم يعمد إلى الاستغراق في توصيف الواقع؛ حيث الواقع معروف، ويكفي في ذلك النظر في تقارير الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصصة، ولاسيما التقارير السنوية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي "UNDP".
وإنما سعى المؤلف إلى تقديم أمرَيْن أساسيَّيْن، على أكبر جانب من الأهمية من خلال التنظير التطبيقي لو صحَّ التعبير، الأمر الأول- هو ما الذي تحتاجه الدول المسلمة على المستوى السياسي والمجتمعي والمؤسسي من هذه الأمور كافة.
الأمر الثاني- هو ما يوجد فعلاً من تطبيقات وصل إليها المسلمون في تاريخهم، وسبقوا به غيرهم في هذا الصدد.
وفي هذا الصدد، خصص المؤلف المقدمة -والتي جاءت بعنوان "مدخل إلى الرشد السياسي" والفصل الأول من كتابه، "الحوكمة ومحدداتها"- للحديث عن المفاهيم الأساسية التي يناقشها الكتاب، مثل الرشد السياسي، والمعيارية السياسية، بين المفهوم الإسلامي، والمفهوم الغربي.
ثم انتقل بعد ذلك لمناقشة الأساس أو التراث الثري في النصوص والممارسة الإسلامية الذي يمكنه أن يُنهِض تجربة معاصرة في مجال الحكم الرشيد والحَوْكَمة في بلادنا الإسلامية.
ويُعدّ الفصلان: (الثاني- "النموذج المدني والرشد السياسي"، والثالث- "الرشد السياسي وجدلية الشرعي والعقلي") من أهم ما يمكن؛ حيث إنهما يكشفان عن أن الشريعة الإسلامية -سواء من خلال النصوص أو من خلال الممارسة النبوية التي لا تدخل في باب "النموذج" وإنما في باب الأصل الشرعي ذاته- فيها من الأسس الراسيات ما يسمح بإنهاض نظام سياسي واجتماعي.
ولعل أبرز ما ذكره في هذا الصدد، وثيقة المدينة النبوية، وكيف أقامت مجتمع المواطنة، وشجَّعت على تأسيس بذرة ما نعرفه في وقتنا الراهن بـ"المجتمع المدني".
فناقش مقاصد الشريعة، وكيف أنها تحقق وتلبي مختلف مطالب الحكم الرشيد، مثل: الحفاظ على حياة الإنسان وكرامته، وصيانة المال العام والخاص وغير ذلك.
ثم انتقل في الفصل الرابع، "الحريات وحدود الإلزام بين الشريعة والقانون"، إلى مناقشة نظرية الالتزام والحريات، والحقوق والواجبات، سواء في القانون المدني كما عرفته البشرية وطورته في القرون الماضية، أو في الشريعة الإسلامية؛ لكي يخلص إلى نتيجة مهمة مفادها عدم تعارض الجانبَيْن.
ثم انتقل بعد ذلك، في الفصلَيْن: (الخامس، "النظام الشوري والحَوْكَمة الرشيدة"، والسادس، "الدولة والأمة والمجتمع المدني") إلى مناقشة نماذج وتجارب، سواء على المستوى الفكري، مثل تجربة ابن خلدون، أو على المستوى التطبيقي.
وركز في ذلك على التجربة الثرية لدولة أمير المؤمنين، الخليفة عمر بن الخطاب "رضي اللهُ عنه"، في المجال المؤسسي وقواعد النزاهة والشفافية والتعيين في المناصب العامة، وما إلى ذلك.
ثم انتقل إلى مناقشة الثقافة المدنية والمجتمع التعددي كما برز في الدولة الإسلامية بعد مرحلة صدر الإسلام ودولة الخلافة الراشدة، بدءًا من الدولة الأموية، وانتقالاً إلى الدولة العباسية.
أما الفصل السابع: "السياسات العامة وحدود المقاربة المعيارية: السياسات الاقتصادية والاجتماعية نموذجًا"، فقد خصصه للمقارنة كذلك بين ما جاءت به شريعة الإسلام، وبين النظم الحديثة، بما في ذلك الأنظمة المصرفية، وأنظمة التضامن والتأمين الاجتماعي، وكيف أنه هناك إمكانية للالتقاء في أية دولة مسلمة تستند إلى الشريعة، في وقتنا الراهن.
وخلص المؤلف إلى التأكيد على أن قضية الرشادة أو الترشيد كما كان المصطلح الذي استخدمه، هو من أهم ما يمكن كضرورة سياسية واجتماعية.
وقال إنه من الأهمية بمكان العمل على رسم واتخاذ وتنفيذ القرارات الخاصة بشؤون المواطنين والحياة العامة، على أسس ذات طابع إنساني، أي تحقق الكرامة الإنسانية ومصالح الناس.
وبالتالي فهو يؤكد على أنها عملية عميقة، تتطلب إصلاحات وإجراءات على مختلف المستويات، السياسية والتربوية والاجتماعية، وتشمل الدولة والمواطنين على حد سواء.
ولم يغفِل الكاتب دور النخبة في ذلك، سواء كحلقة وصل بين الحاكم والمحكوم، أو كعامل محرِّك للجهود الإصلاحية في هذه الاتجاهات كافة.
ولكنه أكد كذلك على أنه بالرغم من المحاولات التنظيرية التي بذلها وغيره من المفكرين الذين كتبوا في ذات الاتجاه؛ فإنه لا ينبغي تجاهل الخصوصيات الدينية، والعمل على الموازنة بينها وبين الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية التي يجب الحفاظ عليها كسبيل وحيد للإصلاح وإنهاض تجارب تطور، فردية ومجتمعية سليمة في العالم العربي والإسلامي.
عن المؤلف
الدكتور لؤي صافي هو في الأصل ناشط في الدفاع عن حقوق الجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة والغرب، وهو كذلك عضو مؤسس في مجلس إدارة مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، وزميل في معهد دراسة السياسات الاجتماعية، وزميل في مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون، وأستاذ مشارك في عدد من الجامعات الأمريكية.
ومن بين أهم المجالات التي قادته تخصصاته المختلفة إلى تناولها، قضايا التنمية في العالم الإسلامي، بما في ذلك التنمية السياسية، وما تشمله في صدد تحسين أداء المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، وحوكمتها.
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: صافي، لؤي (د)
اسم الكتاب: الرشد السياسي وأسسه المعيارية... من الحكم الراشد إلى الحَوْكمة الرشيدة/ بحث في جدلية القيم والمؤسسات والسياسات.
مكان النشر: بيروت.
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
تاريخ النشر: 2015م.
الطبعة: الأولى.
عدد الصفحات: 224 صفحة من القطع الكبير.